فلسطينية بأطراف صناعية تتسلق جبل كليمنجارو

  الحياة- Bûyerpress

شادن حساين- أن تقف على باب منزلك ليقع في مدى نظرك جبل أو تلة لعله سيؤجج في نفسك لعنة المكان والزمان الذي منعك من أن تخطو قدماك لتصل إلى قمة تتوالى الشمس على زيارتها كل صبح لتطل على مغتصبٍ يحرمك إياها، فما هو حالك وأنت تستثني السهل المنيع الذي هو أمامك وتذهب بقدميك إلى أعلى قمة في جبال إفريقيا، إلى قمة جبل كلمنجارو.

كونك طموحا شغوفا رغم إصابتك قد يأتيك بما لم يكن في حسبانك، فقمة جبل قريتك الصغيرة هذا وإن لم تستطع الوصول إلى أعلاه فإن هناك ما علو وعظِم ينتظرك لتكلله بفخرك الفلسطيني الذي اجتازه بقدم واحدة.

تستذكر ياسمين النجار من قرية بورين جملة الرئيس الراحل ياسر عرفات عندما قال “سترفع زهرة من زهرات فلسطين علم فلسطين عاليا على كنائس القدس ومساجد القدس”، لتوقن بأن البداية كانت على قمة جبل كلمنجارو وأما التالي فسيكون مساجد وكنائس القدس بإذنه تعالى.

تقول ياسمين: “بداية حياتي كانت كأي شخص عادي إلى أن وصلت الثالثة من عمري فكانت هذه السنة هي نقطة التحول في حياتي، تعرضت لحادث سير وأنا ذاهبة مع عائلتي إلى بيت جدي وكانت قدمي مطوية حينها ليعزز هذا من إصابتي، حينها ذهبت بي عائلتي سريعا إلى مستشفيات نابلس جميعها إلا أنها لم تكن مهيأة للتعامل مع مثل حالتي، فتوجهت أخيرا إلى مستشفى هداسا في القدس بعد مرور أكثر من خمس ساعات على الحادث ليجد الأطباء أن خلايا قدمي أصبحت ميتة وبأنه يتوجب عليهم بترها في الحال”.

تأخذ نفسا عميقا وتكشف الستار عن بسمتها الخجولة جليا وتستطرد: “في البداية كان هذا الحادث المأساوي صدمة لأهلي ولأقاربي لكن هذا لم يمنعهم من تشجيعي ودعمي لأتخطى هذه المرحلة، فأحمد الله بأن عائلتي كانت أقوى من كل المحيط الذي حاول تثبيط عزيمتي وعزيمتهم”.

عائلة ياسمين والتي لم تشعر بالكلل أبدا في مرحلة تركيب الطرف الصناعي لها، كان يتوجب عليها أن تذهب إلى القدس خمسة أيام بالأسبوع لمتابعة العلاج الطبيعي من بعد العملية وذلك في ظل أيام انتفاضة الأقصى عام 2000 عدا عن تكلفة علاجها المكلفة آنذاك والتي وصلت قرابة المليون شيقل.

مرت حياة ياسمين من بعد ذلك بشكل شبه هادئ وعادي في المدرسة إلا من بعض حصص الرياضة التي كانت تُحرم من اللعب فيها بحجة خوف مدرستها على طرفها الصناعي، إلا أن هذا لم يؤثر بالسلب عليها بسبب إصرار عائلتها على موقفها الداعم لها.

 

 

بداية البدايات

“في عام 2006 منعني الاحتلال من دخول القدس لاستكمال تركيب طرفي الصناعي بدعوى أنني أشكل خطرا على دولة اسرائيل فتعرفت وقتها على جمعية إغاثة أطفال فلسطين وهي من قامت بمساعدتي على تركيب أطراف صناعية بدول مختلفة، وساعدتني على السفر إلى أميركا ودبي والأردن، ففي أميركا مثلا استغرق علاجي ستة أشهر وكنت حينها في العاشرة من عمري بعيدا عن أهلي إلا أنني لم أتراجع عن فكرة الاستمرار في تقدمي هذا”.

تعرفت هذه الجمعية على ياسمين أكثر من خلال سفراتها معهم واحتكاكها الدائم بهم، فعرضت عليها عام 2013 تسلق أعلى جبل في إفريقيا ألا وهو جبل كلمنجارو ومن دون أي تردد وافقت.

“بدأت رحلتي عند بدئي بالتدريبات استعدادا للرحلة، فتدربت على جهاز المشي وبدأت أتسلق جبال بورين حينها وكانت هنا المفارقة  فهي تشهد بأنني لم أصل لقمتها يوما بسبب تمركز المستوطنات أعلاها، فكنت دائما أنظر للجبل بحسرة وأقول: يا الله رح أتسلق أعلى جبال في إفريقيا وما أتسلق جبل بورين!”.

وعندما حان موعد الرحلة توجهت ياسمين إلى الأردن للسفر من هناك، وحينها حدث ما لم تكن تتوقعه، فالألم أضحى يشتد كثيرا على قدمها المبتورة ويزيد من تخوفها فذهبت فورا إلى دكتور للعظام، ولم يلبث هو حينها من أن يعبر عن صدمته ليقول لها: “في وضعك هذا لن تصلي للقمة إلا بمعجزة!”

ونوه حينها إلى أنه كان يتوجب عليها إجراء عملية قبل سنة تمهيدا لرحلة شاقة كهذه، إلا أن هذا لم يهبط من العزيمة التي كانت تتملكها ياسمين فتقول: “كلام الطبيب لم يجعلني أعود من نصف الطريق بل وأكملت به، فالموضوع كان باختياري من بدياته فلم أتراجع”.

 

رحلة جبلية صعبة

“بدأنا التسلق واستهلك منا ثمانية أيام، ستة منها صعودا ويومين نزولا، خلال الثلاثة أيام الأولى كان لدينا صعوبة في التأقلم مع جو الجبل المتقلب عدا عن التحديات التي كانت ستواجه الأشخاص العاديين من نقص كمية الأوكسجين وانخفاض درجة الحرارة لتصل إلى عشرين تحت الصفر وساعات المشي الطويلة وتضاريس الجبل، اضافة لصعوبة الخلل التقني الذي أصاب قدمي هناك والجروح والوجع الدائم، ومع ذلك كنت مؤمنة بداخلي إلى أنني سأصل للقمة.

تستطرد ياسمين وبريق عينيها قد ازداد في اليوم الرابع وجدنا أمامنا حائطا صخريا وكان التحدي بأنه يتوجب علينا تسلقه وهو ما يفترض أن تستخدام يديك وقدميك لتجتازه، ولذلك فإن على ياسمين أن تستعيض عن ذلك بقدم واحدة فقط وهذا التحدي الأكبر، أما في اليوم الخامس فقد اختفت جميع مظاهر الحياة وتلى ذلك اليوم السادس والذي هو يوم الوصول للقمة.

استيقظنا الساعة الواحدة والنصف ليلا كي نتجهز للوصول وحينها بدأنا المشي لنكتشف بأننا سنتسلق بزاوية 90 درجة تقريبا وبعد سبع عشرة ساعة وصلنا للقمة حينها كانت لحظة تاريخية لا توصف بعد معاناة ستة أيام من التعب والجهد أثبتنا فيها أنفسنا وأوصلنا فيها رسالتنا، وكانت لدينا رسالة نبيلة حينها ألا وهي جمع التبرعات لجمعية إغاثة أطفال فلسطين والتي ساعدتني على تركيب الأطراف في بلدان مختلفة فكان هذا نوعا من رد الجميل لهذه الجمعية.

 

أرواح كلمنجارو

ياسمين المُلهمة برواية “أرواح كلمنجارو” لكاتبها ابراهيم نصر الله تقول “كان ابراهيم من أحد المتسلقين في هذه الرحلة، وعندما سمع بها تحمس كثيرا وبدأ بالتدريب مع انه لم يكن لديه سوى فترة قليلة جدا أي ما يقارب الأربعة شهور كي يتدرب على رحلة شاقة كهذه، فكانت الرحلة ملهمة له ليكتب روايته، ابراهيم الذي رأى معنا التحديات والصعوبات التي واجهناها في الصعود للقمة كان يراني حينما كنت أفك طرفي الصناعي عن قدمي وأطهر الجروح وأعقمها كي أتابع حينها كنت أراه يكتب ملاحظاته على دفتره الصغير فعلمت حينها بأنه تنتظرنا رواية رائعة.

هناك مقطع صغير في بداية رواية ابراهيم يقول فيها “في كل انسان قمة عليه أن يصعدها وإلا بقي في القاع مهما صعد من قمم”، أحب هذا المقطع كثيرا فنحن كنا نعبر عن هذه الجملة في أفعالنا إلا أن الكاتب ابراهيم جاء ولخصنا فيها.

تحلق ياسمين بكلامها عاليا لتوقن أخيرا بأنه لولا الحادث لكانت إنسانة عادية جدا ولما كانت ستصل إلى ما وصلت إليه اليوم، فهي تؤكد على أن ما بعد الحادث كان محفزا لها كي تكمل ولكي تجد نفسها في مكانِ ما.

وتختتم قائلة: “قمة الحرية هو الاسم الثاني لجبل كلمنجارو ووصولي لهذه القمة ما هو إلا تيمنا كي أصل للحرية في قلبي وفي وطني بإذن الله”.

ففي اكتوبر من السنة الماضية استلمت ياسمين الجائزة الدولية للنساء المنجزات في أوروبا وكانت حينها أصغر فتاة وأول فلسطينية تستلم هذه الجائزة، وألقت وقتها محاضرات في عدة مدارس وجامعات في ايطاليا بالإضافة إلى حصولها على عضوية من رابطة المتسلقين الإيطالية، ومن الرحلة إلى هذا اليوم تحدثت مع أكثر من ستة آلاف شخص عن تجربتها خلال التسلق.