في ظل أحدث أزمة أعادت العراق مرة أخرى إلى صدارة عناوين الأخبار العالمية، ليس من المفاجئ أن يصدر عدد من الكتب التي تتناول السياسة والتاريخ العراقيين أو يعاد إصدارها في الغرب. ويمكن تصنيف هذه الكتب وفقا لثلاث مجموعات.
في المجموعة الأولى نجد الكتب التي تتعامل مع قضية العراق بوصفها واحدة من مسائل السياسة الداخلية الأميركية والأوروبية الغربية. ومن المعروف، أنه في العقود الأخيرة لم تتسبب قضية في انقسام آراء النخبة الغربية مثلما فعلت الإطاحة بصدام حسين في عام 2003؛ فبالنسبة للبعض كان سقوط الطاغية يمثل النسخة السياسية من المفهوم المسيحي «الخطيئة الأصلية». وتكفيرا عن تلك «الخطيئة» يجب علينا جميعا أن نفعل ما في وسعنا للتأكد من أن العراق فشل في صنع مستقبل أفضل لذاته وبذاته.
وتعتبر بعض الكتب المصنفة وفقا لهذه المجموعة أن حرب العراق ثمرة مؤامرة بين المحافظين الجدد في أميركا الذين رغبوا في تدمير نظام صدام حسين «الاشتراكي» المفترض في بغداد. وكان أحدث من دفع بتلك النظرية هو كتاب تشارلز إيه. كويوت «حرب العراق: ماذا حدث خلف الكواليس؟» (Iraq War: What Happened Behind the Scenes)، الذي اعتمد على تل من الوثائق الحكومية والتصريحات المأخوذة من شخصيات بارزة في إدارة جورج دبليو بوش.
ويقدم كتابان آخران نطاقا أكثر محدودية، الأول هو «سهام الليل» (Arrows of the Night) من تأليف ريتشارد بونين (320 صفحة)، ينسب فيه إلى السياسي العراقي والخصم السياسي القديم لصدام حسين، أحمد الجلبي، دفع الولايات المتحدة إلى الحرب. هنا أيضا يمكن أن يلتقط القارئ شعورا بالحنين إلى الديكتاتور المطاح به. في هذه الكتب وغيرها ذات الفكرة المشابهة، يحاول الكُتاب أن يدعموا فرضيتهم بأن الإطاحة بصدام كانت خطأ وذلك بتوقع مستقبل عصيب في العراق. وكان التنبؤ الأساسي هو أن العراق سوف يتفكك على الأقل إلى ثلاث دويلات صغيرة: شيعية وسنية وكردية. وكانت الفكرة الضمنية وراء ذلك التحليل هي أن الديكتاتور الذي لا يعرف الرحمة ويحكم بقبضة حديدية هو الوحيد القادر على الحفاظ على وحدة العراق.
تضم المجموعة الثانية الكتب التي أيدت حرب 2003، ولكنها توقعت مستقبلا مظلما للعراق بعد صدام. وأفضلها كتاب توبي دودج «العراق: من الحرب إلى استبداد جديد» (176 صفحة) (Iraq: From War to a New Authoritarianism). يعترف دودج بأن التخلص من صدام كان خطوة جيدة، ولكنه كان يحذر من أن خلفاء الطاغية، وأبرزهم رئيس الوزراء نوري المالكي، يحاولون إقامة ديكتاتورية جديدة، وأن العراق قد يتجه كلية إلى التفكك.
وتحتل إمكانية تقسيم العراق الفكرة الرئيسة في كتاب «مستقبل العراق: الديمقراطية أم التقسيم؟» (The Future of Iraq: Democracy or Division) من تأليف ليام أندرسون وغاريث ستانسفيلد (288 صفحة). ويحمل الكتاب رسالة مفادها أن العراق سوف ينقسم إلى ثلاثة أقاليم تاريخية.
في المجموعة الثالثة، نجد كتبا تعلن أن حرب عام 2003 كانت انتصارا أميركيا بددته «لا مبالاة» أوباما. وأفضل تلك الكتب هو «نهاية اللعبة: القصة الداخلية للصراع من أجل العراق، من جورج دابليو بوش إلى باراك أوباما» (The Endgame: The Inside Story of the Struggle for Iraq، from George W Bush to Barack Obama) من تأليف ريتشارد جوردون وبرنارد إيه ترينور، والمكون من 832 صفحة.
هنا أيضا يتفق المؤلفان على «تحرير» العراق، ولكن يحذران من تقسيمه الذي يلوح في الأفق.
تتسلل فكرة التقسيم أيضا في كتب تتناول صناعة النفط العراقية. وأقوى ما صدر في هذا الصدد هو كتاب غريغ موتيت «وقود على النار: النفط والسياسة في العراق المحتل» (432 صفحة) (Fuel on the Fire: Oil and Politics in Occupied Iraq). ويشير ضمنيا إلى أن شركات النفط الكبرى قد تجد أن العراق المنقسم أسهل في التعامل معه نظرا لأن «الدولة النفطية المثالية» هي الدولة التي تملك كثيرا من النفط وعددا أقل من السكان. وفي عام 2003، ادعى الكثير من المعارضين للولايات المتحدة أنها أطاحت بصدام من أجل «سرقة النفط العراقي». ويوضح موتيت أن هذا لم يحدث. في الواقع، وتجنبت شركات النفط الأميركية العملاقة بحذر التورط في العراق. ولكن هل السبب وراء ذلك أنها تنتظر أن ينقسم العراق إلى دويلات صغيرة؟
تستعين الجماعة التي تتنبأ بـ«تقسيم العراق» بثلاثة براهين لدعم حجتها، الأول هو أن العراق دولة «مصطنعة». ويدعي ستانسفيلد، على سبيل المثال، أن البريطانيين «صنعوا» العراق عام 1921 ليكون منطقة عازلة ضد كل من تركيا وروسيا، وأن «هيكل العراق المركزي الجديد كان معقولا فقط من وجهة نظر البريطانيين». علاوة على ذلك: «جلب» البريطانيون ملكا من الخارج إلى العراق ومعه كثير من النخبة الحاكمة الجديدة».
إن الحجة القائلة بأن العراق مناسب للتقسيم بسبب أنه «مصطنع» هي حجة ساذجة تماما؛ فجميع الدول القومية مصنوعة، ولم تهبط أي منها من السماء بالصورة التي هي عليها. على سبيل المثال، بدأت الولايات المتحدة الانفصال عن الإمبراطورية البريطانية، وتشكلت تدريجيا بالاستيلاء على أراض من سكانها الأصليين وشراء أراض من الفرنسيين والروس، والاستيلاء على مناطق من الإمبراطوريتين الإسبانية والمكسيكية.
كذلك، لا يعد كون الدولة العراقية الجديدة أقيمت بمساعدة من البريطانيين مبررا لنزع الشرعية عنها.
ولعب الفرنسيون دورا فعالا في قيام الولايات المتحدة نكاية في أعدائهم البريطانيين. وزودت الأجهزة السرية الفرنسية الثوار الأميركيين بالسلاح والمال بينما ساعدتهم البحرية الفرنسية على كسر الحظر البحري البريطاني. وساعد جنرالات فرنسيون مثل آرشامبو ولافايت على تدريب وتنظيم الثوار الأميركيين.
وقامت فرنسا أيضا بدور في قيام دولة إيطاليا عام 1870؛ إذ قامت الدولة الإيطالية الموحدة من أجزاء منفصلة من الأراضي بمساعدة الفرنسيين والبريطانيين والبابا لتحقيق توازن مقابل الرايخ الألماني الذي تأسس حديثا في ذلك الوقت.
إن كون الدولة العراقية الجديدة قد أقيمت بمساعدة من البريطانيين مبررا لنزع الشرعية عنها؛ فعندما تأسست الدولة لم يكن تعداد سكان العراق يتجاوز 1.2 مليون نسمة، واليوم، يصل تعداد سكان العراق إلى 32 مليون نسمة. وكما في حالة جميع الدول ذات القوميات، المهم هو الواقع الوجودي للعراق بوصفه وطنا لشعب يشعر أنه شعب عراقي، رغم كل شيء.
آخر حجة تدافع عن تقسيم العراق هي الأكثر غرابة: من دون التقسيم، قد يحول نوري المالكي العراق إلى ديكتاتورية أخرى.
ففي الحقيقة، إن المالكي، أو أي شخص غيره، لا يمكنه، حتى لو أراد، أن يقيم ديكتاتورية جديدة لأنه لا يمتلك الوسائل اللازمة لفعل ذلك. مشكلة العراق تكمن في مكان آخر. وكما أظهر الفشل الذي وقع في الموصل، فإن الدولة العراقية ما تزال ضعيفة. ليست المشكلة، إذن، في أن الحكومة العراقية الحالية شديدة القوة؛ بل المشكلة في أنها شديدة الضعف وتعاني من الفوضى بما لا يُمكّنها من مواجهة الخصوم في الداخل والأعداء في الخارج، الذين يريدون، ولكل منهم سبب مختلف، تقسيم العراق إلى عدة دويلات صغيرة.
في تقديري، يتسم الشعور بـ«العروقة» بالقوة الكافية لتجاوز موجة تسونامي الراهنة من نزاع طائفي وفساد وانعدام كفاءة وإرهاب. العراق يستطيع أن يتعافى، ويستعيد مكانه المناسب في الشرق الأوسط.
ولكي نتذكر المخزون العراقي المذهل من القوة الأخلاقية والقدرة على البقاء، أوصي بقراءة كتاب هيو كنيدي «عندما حكمت بغداد العالم الإسلامي» (When Baghdad Ruled the Islamic World) (326 صفحة). ويجب أن أعترف بأنني من أشد المعجبين بالبروفسور كنيدي نظرا لحسه في كتابة التاريخ الذي لا ينازعه فيه أحد.
ولكن سيكون من الأفضل أن تقرأ كتابه بنفسك.
عن الشرق الأوسط/الطبعة الدوليَّة