رحل الشاعر الفلسطيني الكبير سميح القاسم، قاسياً في رحيله، مُرّاً في موته، مُفتقداً في حضوره الشعري، رافضاً، غاضباً، مقاوماً، عنيداً، في وجه مغتصبي وطنه. احترقت كثيراً في عينيه تواريخ بلاد كانت له، ولأهله، ولشعبه؛ ترمدت كثيراً أرضاً تحت قدميه، منذ طفولته، داستها ودنستها أحذية الطغاة، والمحتلين، والصهاينة. كان بدأ الشعر مع ترحل الوطن. وما أحدّ الشعر في رحيل وطن. كان له أن يُحكم بمنفى عاشه في فلسطين. ما أرهب أن يكون الوطن منفى. عاش في أول الشعر وآخره، مع أول الاحتلال وامتداده، حتى عينيه، وبيته والهواء الذي يتنشق، والشمس التي يمتص، كيف لشمس على بعد عينيه، في حيفا ويافا والجليل ولا تكون له؟ كيف لشجرة طلعت منه، ومن أطفال بلاده، ومن تربة مباركة، أن يقطعها عليه، وعلى يديه، المغتصبون.
رحل معذباً في مرضه الطويل، الناهش، الأكول، كما عاش معذباً في مرض الاحتلال الطويل، الناهش، الأكول.
لكن سميح القاسم، الذي وُلد في الحرية، ثم ترعرع في غربة وطنه السليب؛ الذي فتح عينيه على أقمار كأنما طلعت من وجوه شعبه، وسماء كأنها انتفخت بآمالهم، ترعرع وعاش لا شمس ولا قمر. ذلك أن الغول افترس القمر.. ذلك أن الغول الصهيوني أطفأ الشمس! لكن من قال إن الشمس تولد مرة. والقمر مرة. والشجرة مرة. والأطفال مرة. هكذا صرخ! سنعيد الوطن. هكذا صرخ كما صرخ سعد الله ونوس «نحن محكومون بالأمل». الغريق محكوم بالنجاة. الخاسر محكوم بالرجاء. فولدت المقاومة على وجهه، كأن ولدت عيناه مرة ثانية. ويداه الف مرة، فلنقاوم! فلنقاوم. داخل الوطن المنفي، وبين الطغاة، وفي كل بقعة من أرض الوطن العربي، والعالم. محكوم بالمقاومة كصديقه الكبير الراحل محمود درويش الذي سابق كل منهما الآخر في قدر المقاومة، واحد من الداخل، في قلب الجرح وآخر خرج من الداخل إلى العالم، ليكون حوار مواجهة «العابرين»، كبيراً.
رحل، بعدما ملأ العالم العربي، بالشعر المجاهد. نذر جسمه وحواسه وقلبه وعقله ووجدانه ومصيره لمقاومة صاغها بأحرف عالية، وبكلمات ضاجة، وبقصائد هي سلاح ماضٍ من أسلحة المواجهة. نواجه بالشعر وبالرواية، وبالمسرح، وبالفكر، مواجهتنا بالقوة، والسلاح. قد لا يفهم العدو لغة الشعر المقاوم، لكنه فهم مرات لغة السلاح، والأبطال والمقاومين. وها هو كأنه يفتتح صباحه بنشيد، ويغلق ليله بقصيدة، تنتشر كالهواء في الفضاء العربي. تصرخ بالحرية، والأرض، وتدعو الى المواجهة «تقدموا، تقدموا»، كأنها لازمة شعره، وإيقاعه، الذي ردده بعده المنفيون، المقهورون، لكن المقاومون. كحّل عينيه بالانتفاضة الأولى. وكانت صرخة الأجساد العارية تملأ فلسطين. وكحل عينيه بالانتفاضة الثانية. وكان للمناكب أن تحمل البنادق «صار اليوم عندي بندقية» بقي الاحتلال وتوسع، وعهر، وقتل، وشرد، واستوطن، واعتقل، وسرق ما لم يسرق في البدايات. أكمل النهش. والقضم. والافتراس. وكانت، اللحظة الثالثة، وهو في مرضه. لحظة المقاومة المتوازنة، مع العدو. لحظة وكان سميح القاسم يفتح عينيه من خلف اعيائه، ووجعه، ليشهد بداية نهاية اسطورة الغاصب – المحتل. فتح عينيه وكأنما رأى ألف محمد الدرة على مدى فلسطين. وكأنما تنهد في صدور آلاف الأبطال وهم يدافعون عن غزة، ويردون وحشية الصهاينة! آه! ربما صرخ! آه! كأنما عادت طفولته الحرة كلها اليه، كأنما، وهو يغمض عينيه، وصخب الحرب تلاطم الجدران والسماء، صرخ، نعم! تقدموا. تقدموا. تقدموا! فلسطين تنتظركم! فلسطين تنتظرني معكم. أنا عشت في منفى الوطن، فلأدفن أخيراً في وطن بلا منفى؟
صرخة، وامتزجت بآلامه، وبجسده الضعيف، ورحل. وبقيت تتردد في سماء الأبطال كلماته «تقدموا تقدموا»
بول شاؤول/ عن نوافذ