على ضفاف التجربة الكردية

بقلم طه خليل

لم أغادر بلدة القامشلي، منذ عام 2012، وكان آخر وجود لي في «العالم الخارجي» حين عدت من دمشق باتجاه القامشلي، على متن باصات حديثة كانت تنقل أهل الجزيرة السورية إلى الشام وحلب، وبالعكس، وغالبيتهم لتلقي العلاج.

في ذلك العام، شعرت بأن دمشق ذاهبة باتجاه الحرب، وعلي أن اترك سكني وأصدقائي و «عالمي» وأذهب إلى بلدتي الصغيرة القامشلى التي تتحضر هي الأخرى لثورتها، وإن مت فلأمت هناك، بعيداً من أصدقاء الشعر والصحافة والرسم الذين كنا نمضي العمر معاً بين دمشق وبيروت ونحلم بما فاتنا.

في طريق عودتي وبعد أن تجاوزنا بلدة الرقة، أوقفنا حاجز لجيش النظام السوري، دقق في هوياتنا، وأخبرنا بأن نحتاط ونحذر فبعد كيلومترات حاجز لـ «العصابات المسلحة». وبدأنا إخفاء ما لدينا من نقود وأجهزة خليوية. وبعد أقل من ثلاثة كيلومترات، وصلنا إلى حاجز لمسلحين، فأوقفوا الباص، وعرفت أنهم من «جبهة النصرة»، فقد كتبوا اسم جبهتم بخط عريض على «جرّافة « كانت تحفر خندقاً هناك، وصعد عدد منهم للتدقيق في هوياتنا، وبين نقاشات ووصايا وشتائم، والطلب من الرجال والنساء أن لا يتشاركوا بمقاعد مزدوجة، إلا إذا كانوا من «المحارم»، سُمح لنا بالمرور بعد توقيفنا أكثر من ساعتين. وسرنا ما يقارب من كيلومتر واحد، وإذ بحاجز آخر للجيش السوري، واستغربنا، كيف تأمن تلك «العصابات المسلحة» وهي بين حاجزين للجيش، فأخبر السائق ضابطاً بأن ثمة حاجزاً للمسلحين، فسأله: «شو طلبوا منكن…؟ ما قالوا للنسوان غطوا روسكن؟». وحين أجاب السائق بالإيجاب، ابتسم الضابط المعتد بنفسه، وطلب منا أن نكمل طريقنا، فأكملنا بقية الطريق والركاب يستهجنون.

منذ ذلك اليوم، لم أترك القامشلى، ومرت بنا وعلينا مجاميع كثيرة من «الثوار» و «العصابات المسلحة» وشبيحة النظام، وجيشه، حتى جاءت دولة البغدادي لتسمي مناطقنا الكردية «ولاية البركة، وعين الإسلام»، وتسمي الكرد «الملاحدة» وليعلن عناصرها أنهم سيقيمون صلاة العيد المقبل في القامشلي، وبالطبع تجهز الكرد لهؤلاء، وأسسوا وحداتهم العسكرية، وانقسموا كالعادة، فئة ذهبت مع «معارضة إسطنبول»، وأخرى شكّلت معارضتها واختارت لنفسها «خطاً ثالثاً» لا مع المعارضة الرسمية ولا مع النظام. وهكذا حتى استلمت كل المناطق الكردية بعضها بحرب شرسة مع النظام وبعضها بعد مناوشات صغيرة، وأسست إدارتها الذاتية في المناطق الكردية التي تسمى تاريخياً «غرب كردستان» أو الجزء الغربي من كردستان الملحقة بالجمهورية العربية السورية منذ اتفاقية لوزان في العشرينات.

خاضت «الإدارة الذاتية» (في غرب كردستان) حرباً ضد المجموعات المسلحة وبمختلف مسمياتها، وضد النظام أيضاً، ومرت روج آفا بأخطر مرحلتين هما مرحلة حرب سرى كانيي (رأس العين) وحرب كوبانى، وحاولت الدولة التركية خنق تجربة الكرد في غرب كردستان الذين يرفعون أعلامهم وصور عبدالله أوجلان على طول الحدود، وأثبت المقاتلون الكرد أنهم دهاة حرب ودفاع، فصاروا شركاء في التحالف الدولي لمحاربة الإرهاب، وقدم لهم التحالف دعماً عسكرياً ولوجيستياً في السماء، وها هم على أبواب الرقة اليوم.

هاجر معظم الكتاب والشعراء الكرد من روج آفا، وبقي كثر من «الثوريين الرومانسيين» الحالمين بـ «أخوة الشعوب» وبناء «مجتمع ديموقراطي». بقيت قلة ارتضت العيش المشترك، وتتمنى تحقيق تعايش بين القوميات والأديان المتعددة والمتنافرة على مدى سنوات حكم البعث في هذه البقعة من الأرض الكردية الغنية بالبترول والفوسفات والمياه ومشتقاتها، وبمشاجراتها.

وبعد سنوات من الوحشة والريبة والقلق في هذا المكان، اتصل بي الصديق حازم الأمين ليخبرني بأنه كان هناك إمكان لزيارة روج آفا للعمل على تحقيق فيلم «دوك» يتحدث عن جيل «داعش» المستقبل، أو الجيل الخامس من تنظيم هو في طريقه إلى الزوال عسكرياً، وكان السؤال الأهم بالطبع عن الوضع الأمني وعن إمكان عمل فريق مؤلف من خمسة أشخاص، لا سيما أن الدعايات والكتابات المعادية لتجربة الكرد في روج آفا تتهم الإدارة الكردية بالعمل مع النظام والتنسيق معه، وهذا ما يجعل أي فريق صحافي يتردد. فخلال هذه السنوات كان القادمون من الصحافيين والمخرجين بمعظمهم هم من «المغامرين الأوروبين والأميركيين»، وقلما حضر صحافيون عرب، لهذا كانت حماستي كبيرة باستقبال هؤلاء الأصدقاء.

وجاؤوا: المصوران السينمائيان طلال خوري، مازن هاشم، ومهندس الصوت مكرم الحلبي، وراوي حقبة نشوء وزوال «داعش» والشاهد عليهما وما سيبقى منها الصحافي حازم الأمين، وتدير العمل المخرجة والصحافية عليا إبراهيم.

وانطلقنا في جو شديد الحرارة من معبر سيمالكا بين جنوب كردستان وغربها باتجاه الغرب حيث كان البرنامج مكثفاً والوقت ضيقاً، لذلك كان علينا الوصول إلى بلدة عين عيسى واللقاء بعوائل من تنظيم «داعش»، ومن ثم زيارة كوباني البلدة الكردية التي أراد «داعش» وأرادت تركيا احتلالها وتغيير اسمها إلى عين الإسلام، بعد أن غيرها البعثيون من قبل وأسموها عين العرب.

في الطريق، مررنا بمضخات كبيرة للنفط متوقفة، تطرق رأسها حزناً، ومررنا بمحاذاة الجدار الإسمنتي الكبير الذي بنته تركيا على طول الحدود. الجدار الذي كان يمكن المنصفين أن يسموه «جدار الفصل العنصري» أو العائلي على أقل تقدير (فقد قسم الجدار العائلة الكردية الواحدة على جانبيه).

مررنا بكل القرى والبلدات الكردية، وكانت أثار القصف التي تعرضت لها تلك القرى والبلدات لا تزال شاهدة، وكانت لا يزال بعض من بقايا شعارات حقبة البعث مكتوباً على بعض الجدران المهدمة، وبعض المدارس التي تعلمنا فيها ورددنا شعارات صباحية تقول: أمة العربية واحدة ذات رسالة خالدة…

في عين عيسى، التقينا بمجموعة من النساء والأطفال الذين فروا، أو أرسلوا بتخطيط من أزواجهن في الرقة، ولكل واحدة من النساء قصة ومأساة، تونسيات ومغربيات ولبنانيات وسوريات وإندونيسيات وشيشانيات… بعضهن نظرن إلينا بعين الشك والريبة، وبعضهن استرسلن في الكلام لإثبات مظلوميتهن!

كانت بين نساء «داعش» المتحمسات للحديث ومنهن مترددات كالشيشانيات والإندونيسيات، وحين كانت اللبنانية تتحدث والفريق مشغول بها، اقترب مني رجل ستيني من الرقة وهمس لي: «لا تصدقوها… كانت هذه من» الحسبة «وتجرجر نساءنا في شوارع الرقة».

وانطلقنا ليلاً باتجاه كوبانى وهناك نمنا ليلتنا، لنكمل في اليوم التالي حواراتنا مع رجال «داعش» الذين تقرأ في كلامهم خيبتهم مما عاشوه، كان المهاجرون أكثر «إيماناً» بدولة البغدادي، في حين «دواعش البلد» كانوا يقسمون بأغلظ الأيمان أن حاجتهم إلى المال دفعتهم إلى الانخراط في التنظيم، وأنهم لم يؤمنوا يوماً بفكر البغدادي، وأنهم لو خيّروا اليوم فسيقاتلون التنظيم إلى جانب قوات سورية الديموقراطية!

التعب والإرهاق بدوَا على فريق العمل، لكن أفراده كانوا فرحين بما أنجزوه في يومين، في كوباني كانت «كاميرا الدرون» تحلق فوق الخراب ويرسلها مازن تارة باتجاه الحدود التركية، وتارة باتجاه الدمار الهائل، حتى أن أطفال كوبانى هاجموها بالحجارة، وحين عرفوا أنها لنا، اعتذروا قائلين: «ظنناها طائرة تركية».

وفي منتصف الطريق، كان طلال يمسك بالأفق ليوثق ما سيجيء بعد هذا الخراب المعرفي «والثوري» الذي استجلبه «داعش» لتجيء أميركا وتنجدنا، نحن الذين كنا يساريين نحلم بإسقاط الإمبريالية، لهذا لم يكتفِ مكرم الحلبي بتسجيل أصوات المحاورين، بل وثق صوت الريح وأنين مضخات النفط في قيظ الجزيرة، وحدها عليا كانت تريد أن تأخذ المكان كله إلى مكان آخر ناء وتصوره وتأخذ تفاصيله وهي مطمئنة إلى أن طه لا يقول لها: «تأخرنا كثيراً».

لفت نظري حين كنا في مخيم عين عيسى وحين كان أطفال المخيم (معظمهم من الرقة والطبقة) يتجمهرون رافعين إشارات النصر ويطلبون أن نصورهم، كان أطفال «الدواعش» يراقبون من بعيد بعيون حذرة ومكسورة، تشي بأن جيلاً آتياً من «داعش» لن ينسى أن لديه أباً وأماً لم يسجلاه في أوراق ثبوتية وأن له إخوة آخرين من آباء عدة.

طه خليل