لم تعد الحياة ممكنة مع هذا القلب

إلى روح جدتي فاطمة حبيب

فراس محمد

.. يرنّ في داخلي صدى صوتها آتياً من بعيد، يهمس باسمي، أجلس قبالتها مقرفصاً، فتنظر إليّ، تتأملني مبتسمة للحظة، ثم توصيني بالحزن خيراً..! تؤرج يدي بكفيها الخشنتين وتردف:

– يا بني.. إن ضاقت عليك الدنيا، فارتمي بين يدي جدّك الشيخ جبر، قل: يا جدي ما لي سواك.! أعنّي على ضيقي، وخذ بيدي.

ولكن يا جدتي هذا القلب عاق! لا تشفع لديه التمائم ولا التعاويذ، ولا كرامة الأولياء الأولين.. وحياة عمامتك وصلاتك، وعينيك السوداوين الغائرين كهوّة تغرق فيهما عشرات النجوم، وحياة جدي الذي كان يهيم على وجهه متعبّداً في البرية، يصاحب قطعان الغزلان، لا عِلم لي من أين تأتت تلك القسوة. ولا كيف حدث وأمست تلك الشرايين طحالب من اسمنت!

أذكره فيما مضى غضّاً، رخواً، كقلوب القدّيسين، تُبكيه الأغاني والرسائل ورائحة المطر، وقصص الحب الحزينة في أفلام السينما.

ذلك القلب الذي أرقني لسنوات وهو يُدمن القطارات، يحفظ مواعيد الانطلاق وأسماء المحطات  في المدن، والعاملين والباعة، ويترك المقعد المقابل شاغراً، فقط لأنه – فيما مضى – تعرّف بفتاته هناك!

لم تعد الحياة ممكنة مع هذا القلب، وهو يستقر في صدري كحجر!

***

يؤرقني قبرك المتروك بدون شاهدة أو علامة، بدون اعتناء، وبلا زائرين.. هل المكان بارد هناك، هل هو موحش ورتيب كهذا العالم؟

كانت تسيطر عليّ دائماً فكرة قاسية، حول ما إذ كان الموت شعوراً حيّاً بالفناء، بمعنى أن يستمر ذلك الإحساس بالأشياء حتى بعد الموت: وحشة أبدية في مكان ضيق، معتم ورطب!

لمّا توفي والد صديقي، كانت أمه ترثي زوجها بنشيج مرّ وهو يُودَع اللحد، إن أكثر ما حفر عميقاً في نفسي، كلامها وهي تقول:

– لا تهيلوا التراب على أبو محمد، أنه مصاب بالربو، سيختنق!

***

كلما فتحت عيني، أجدها مستلقية على جنبها، تتكئ بذراعها على مخدة من الريش، وبمحاذاة المخدة دائماً سجادة الصلاة التي لم تفارق يوماً ذلك المكان.. تتأمل عبر الباب الخشبي القديم، المفتوح حتى في أسوأ حالات الطقس، تشرب الشاي المحلّى بالكثير من السكر كما كانت تحب..

كان الفضاء غارقاً بالضباب وإذ ركضتُ إلى فناء الدار- بعفوية طفل حالم- لأشاهد الغرانيق وهي تعبر السماء نحو البعيد، مصدرة ذلك الصوت الذي يشبه النحيب، وجدتها مستغرقة في النظر إلى نقطة ما غير مرئية؛ بم تراها كانت تفكر في تلك اللحظات، وأي طمأنينة نادرة وجدت الطريق إلى قلبها، لترتسم على محياها تلك البراءة التي ترتسم على وجوه الأطفال عادة؟

هل تراها كانت تفكر بالحقول وقطعان الماشية وبيادر القمح ومواسم الحصاد، والعصافير وهي تطرّز السماء، تراها كانت تستعيض بذكريات الماضي عن واقع محاصر بالتوقعات!؟

إنّ الذكريات الجميلة تصبح قاسية كلما كانت قريبة من مركز القلب، لذلك نصبح تعساء كلما كنا نملك رصيداً أكثر من تلك الذكريات، ويبدو أن الحياة لا تمهلنا كثيراً فتدفعنا نحو مجاهيل لم نكن نتصور بأننا سنتعثر بها يوماً..

الحياة الطويلة التي تركت آثارها على وجه جدتي، تركت أخاديد عميقة أيضاً في قلبها، فقد كانت فكرة البقاء في البيت بالنسبة لها جنوناً لا يحتمل، حتى في سنها المتأخرة الذي تجاوز القرن بعقد. في مرضها الأخير.. كانت تثور لدرجة تصبح بمزاج سيء وعصبي حين تُطالب بالمكوث في البيت حفاظاً على صحتها، وكانت تتصور أن تلك المطالبات نوع من الحجر القسري لها وهو ما لم تتعود عليه.

في الأيام الأخيرة لم تعد تقوى على الحركة والمشي، وكان هذا الشيء – الشعور بالعجز عن المشي – أكثر شيء أسرع في موتها.

 

نشرت هذه المادة في العدد (65) من صحيفة “Buyerpress”

بتاريخ 15/7/2017

فراس محمد