فينوس كوسه
ها أنا ذي أعود إليك بعد سنين وسنين، أتوضأ بك، وأخلع نعلي، فإنيّ في الوادي المقدس؛ أجوب شوارعك، تغمرني ألفّةٌ وحنين، أقبل جدران بيوتك المهترئة، أصافح عواميد الكهرباء المتوجسة من النور، والقيّ السلام على المارة، أيمم شطر بيتنا؛ أبي العزيز يجلس قرب الباب ماسكا عكازه الحنون، ويراقب المارة بعينين اتعبتهما السنون؛ أمي ترتدي (هبريتها) وعلى سجادة الصلاة تبتهل إلى الرب أن يحمي فلذات أكبادها؛ أهرول إلى مدرستي حاملة (شنتايتي)الصغيرة، وأجلس على مقعدي التعيش بغبار الحياة، أعانق معلمتي الحنونة( جاني) وأقول لها: افتقدتك كثيراً؛ معلمتي التي كانت تلبسني(جاكيتها) الصوفي الجميل، تدثرنيّ به في يوم ماطر، أشمه بين فينة وأخرى، تفوح منه رائحة أمي، حين تجلسني قرب المدفئة، وإن هممت بمساعدتها في مسح السبورة. ترفض لتقول: (إن غبار الطباشير سيؤذي عينيك الجميلتين)، وصديقتي ليدي التي كانت تشاركني مقعدي، اتذكر جيدا ضفيرتيها السوداويتين تلفهما (بريبان) أحمر مؤنق، كان بيتها في طريقي إلى المدرسة، ونذهب سويةً إلى المكان؛ قالت لي يوما : أن أمها أخبرتها أن لا تلعب معيّ لأن المسلمين يقتلون المسيحين؛ وأذكر جدتي حين تتهامس مع جارتنا، ثم تناديني لتقول: إذا جاء القسيس إلى مدرستكم (على عادته كل صباح)، إياك أن تقبلي يديه، أن تقولي له أبونا، سوف تحترقينَ بجهنم.
هذه المرة سنقبل القسيس، وشيخ الجامع، وسنلعب سوية يا صديقتي، ولن نسمح لأحد ان يعكر صفونا؛ ويعاودني العيد فألبس ثيابي الجديدة، وأحمل كيساً في يدي وأطرق أبواب جارتيّ (سباوا بخير عيدا وي بمباركبه)، وأتفاخر بين أصدقائي بحجم ما جمعته من سكر. وأتوجه إلى سوقك لأتذوق قليلاً من الكيمر، و العسل، أو أذهب إلى سوق الأتراك، لآكل حفنة من الزبيب، أو بعض (البني) أقذفه إلى فمي على عجل، وأنا استأنف طريقي إلى حدود نصيبين( قابي)، لأشبع نظري إلى توأمة قامشلو الكبيرة، التي لم تعد تشبهها، وكبرت بعيداً عنها؛ وقد أقطف بعض الزهور الخلابة التي كانت تنبت هناك. اهديها للشاب الصغير، الذي يمر أمام بيتنا بدراجته الزرقاء.، أستمتع برؤية عجوزان قد جاءا خفية، لكي لا يراهما أولادهما ليستمتعا ببعض الهدوء، كلاهما مريضان واشتريا ما طاب لهم من حلوٍ ومالح، يقدمان لبعضهما وسط هواء هادئ، وإن طاردني جروٌ صغير بالقرب من حي (حلكو) سأركض؛ كالرهوان. أقدامي تسابقني، لأبقى ادور بحثاً عنك قامشلو، سأحاول أن أجدكِ، إن لم أجدها، سأغادر، كما غادرها الجميع، وأخفوها عن الحياة؛ لم يبقى سوى الغبار المتراكم على موائد الموت، والعشق.
نشرت هذه المادة في العدد (64) من صحيفة “Buyerpress”
بتاريخ 1/7/2017