في معنى «تغيير سلوك النظام» السوري

عبدالله أمين الحلاق

بعد اجتياح العراق عام 2003 وسقوط نظام صدّام حسين بالقوة العسكرية الأميركية، راجَ في الشرق الأوسط وفي سورية خصوصاً مصطلح «تغيير سلوك النظام»، بما هو عنوانٌ لسلّة من المطالب الأميركية حملها وزير الخارجية الأميركي آنذاك، كولن باول، إلى دمشق. هي مطالب تتعلق في شكل أساسي بالعلاقات السياسية والأمنية للنظام السوري مع العراق «الجديد»، وبسياسته الداخلية تجاه السوريين بدرجة أقل.

«تجاوبَ» النظام السوري يومها نسبياً مع بعض المطالب الأميركية «الإصلاحية»، وقام بتغيير اللباس الرسمي لطلاب المدارس السورية من الزي العسكري الموحّد إلى زيّ موحّد، لكنه أقل عسكريّة من الزي السابق الذي استوحاه حافظ الأسد أثناء زيارته إلى كوريا الشمالية.

استمرت الدعوة إلى «تغيير سلوك النظام» بعد الثورة السورية أيام ولاية باراك أوباما، ولا يغيب عن الأميركيين بالطبع معنى أن يقوم النظام بــ «تغيير سلوكه»، وتبعات ذلك على النظام نفسه. وبعد وصول دونالد ترامب إلى رئاسة الولايات المتحدة، وقيامه بضربة عسكرية «تأديبية» لنظام الأسد، على خلفية استعمال الأخير السلاح الكيماوي ضد سكّان خان شيخون، راهنَ كثيرون من المراقبين على سياسة أميركية جديدة تجاه سورية والشرق الأوسط. في هذه الفترة، ذكّرنا السيد علي خامنئي، المرشد الأعلى للثورة الإسلامية في إيران، بوزير خارجية «الشيطان الأكبر» أيام اجتياح العراق عام 2003. لم يتردد المرشد الأعلى في توضيح معنى ذلك «التغيير في السلوك»، عندما قال في حديث له خلال مراسم تخريج دفعة من ضباط «جامعة الإمام الحسين»، إن «هدف العدو على المدى البعيد تغيير أسس النظام الإسلامي في إيران، لكنهم تلاعبوا بالمصطلحات، إذ لا يوجد فرق بين تغيير النظام وتغيير سلوكه».

أصاب خامنئي «كبد الحقيقة» بعدم تمييزه بين «تغيير سلوك نظامه»، وسلوك أنظمة غيره بالضرورة من جهة، وبين تغيير النظام من جهة ثانية، على رغم أن كلامه يندرج في إطار الحديث عن المؤامرة التي «تستهدف بلده» منذ انتصار الثورة الإسلامية الإيرانية، أيام آية الله الخميني. وهو يعلن في شكل غير مباشر في كلامه أعلاه، أن أي تغيير بنيوي في سلوك نظامه تجاه الشعب الإيراني ثم تجاه شعوب المنطقة، يعني أن يصير النظام الإيراني نظاماً آخر غير الذي عرفه الإيرانيون وشعوب المنطقة التي أذاقتها قوات نظام الملالي وميليشياته الويلات.

القصة طبعاً أكبر من تغيير سلوك نظام لن يقبل بأن يغير في سلوكه شيئاً بالعمق، فيحكم على نفسه نتيجة ذلك التغيير البنيوي بالنهاية. وإن كان من معنى أشمل لكلام السيد خامنئي، فهو وجود النظام السوري الذي يعرف أيضاً أن «لا فرق بين تغيير النظام وتغيير سلوكه». وتشير التصريحات المتواترة المنقولة عن بشار الأسد بين الفترة والثانية، وما بينهما من مقابلات على وسائل إعلام غربية، إلى نوع من الارتياح النسبي لا يزال يعيشه «النظام»، خصوصاً بعد أن تم الاتفاق في آستانة على إنشاء المناطق الشهيرة باسم «مناطق خفض التوتر».

بشار الأسد الذي يعتبر المفاوضات السياسية مع معارضيه «مضيعة للوقت»، يقول الصدق أيضاً، كما خامنئي، وعلى غير العادة المعروفة من نظامين يعتاشان على الكذب، وتبعاً لتمسّكه كذلك بالأبد وأوهام إعادة السيطرة التي لا تزال تداعب مخيلته ومخيلة عائلته حتى الآن. يدرك السوريون، كما حلفاء الأسد وخصومه الإقليميون والدوليون، أن أي تنازل حقيقي من النظام في القبول ببدء مرحلة انتقالية يعني انهيار النظام بالتدريج، وأن «التنازلات» التي قد يقدمها النظام لا تتعدى تنازلات شكلية، رأينا بعضها في صيغة «حكومة الوحدة الوطنية» التي يتحدث عنها الأسد وحلفاؤه وبعض «المعارضين» له على أعتاب كل جولة تفاوضية في جنيف. بات «تغيير السلوك» لا يتعدى، بالنسبة إلى حكّام دمشق، توزير «معارض» هنا وآخر هناك من «المعارضة الوطنية الديموقراطية» في الداخل والخارج، والمتوزعة بين منصات موسكو والقاهرة، إلى جانب منصة «سقف الوطن». وقد يكون من المفيد العودة بالذاكرة إلى الفرص التي أتيحت للنظام السوري في تغيير سلوكه، بما يعنيه ذلك من طي صفحة الأسدية بقرار من الأسد نفسه. هما محطتان رئيستان: بعد التوريث عام 2000، وبعد الثورة السورية عام 2011. «التربية الفاضلة» التي ترعرع عليها بشار، ودماء حافظ الأسد التي تغذي عروق الوريث، هي التي ستستأنف النظام ذاته بعد التغير البيولوجي الذي طرأ عليه بموت الأب المؤسس. وكان قبول الابن بــ «التوريث» إعلاناً منه باستمرار سورية «ملكاً خاصاً للعائلة الحاكمة»، يحتاج القطع معها إلى قرار لا يمكن نظاماً سلالياً أن يقوم به. بهذا المعنى، كان الراحل جورج طرابيشي محقاً في دعوته النظام السوري بعد الثورة إلى «إصلاح ذاته، بمعنى إلغاء ذاته».

الحديث عن تغيير سلوك نظامٍ قتل مئات الآلاف وشرّد الملايين ليس إلا مزحة سمجة، تخجل حتى روسيا من الحديث عنها في شكل مباشر اليوم. سيبقى بشار الأسد محكوماً بسقف تغييرات إجرائية في ظل غياب معادلة أميركية جديدة لا تقف عند تغيير الزي الرسمي في المدارس. وبعد أن نكرر البداهة الصحيحة والمملة بأن «الولايات المتحدة لم تكن حيادية يوماً أو مع أي مشروع تحرري وديموقراطي في المنطقة»، يمكن الإضافة وقول أنه من المستبعد أن تبقى القوة الأكبر في العالم طرفاً حيادياً تجاه سورية، يبزّها الأفغان والشيشان وعصائب أهل الحق و»حزب الله» في رسم خارطة البلد.

هذا في ما خص «الحكم السلالي». لكن، ثمة ما يتشابه بينه وبين «التشريفات» الأخرى التي واجهت وتواجه السوريين أيضاً، ممثلاً بــ «تغيير السلوك» لدى الإسلاميين أيضاً، بما هو قطع للعلاقة مع المنهل والنبع الذي لم يخضع لعملية تاريخية تعلن أنه «بات خارج الزمن وعالم اليوم». وليس غريباً أن استحضار السلف الصالح والتاريخ والقرون الهجرية الأولى لن يؤدي إلا إلى اصطدام مشاريع التغيير في المنطقة بصخرة الانغلاق الديني، وتهشّم جمجمة هذه المشاريع عليها، خصوصاً إذا ما قدم سلفيو البلدان المنتفضة أنفسهم ومشاريعهم حلاً للمعضلات السياسية وللورم الخطير ممثلاً بأنظمة الإبادة الجماعية. هذا من دون أن يعني ذلك استعداد أحفاد «السلف الصالح» لــ «تغيير السلوك»، بما هو «تغيير للنظام» أيضاً. ومن دون أن يفترض ذلك حسن النية لديهم أيضاً، أو يفترض وجود نهايات سعيدة ستكلل الحلقة الأخيرة المستحيلة من هذا المسلسل العربي الطويل.

 

العراقخامنئيسوريةصدام حسين