تقوم هذه الرواية الأخيرة للروائي الأمريكي « بول أوستر « على التصارع بين شخصيتين مهمتين تمثلان رؤيتين متناقضتين للعالم، شخصية البطل « آدم والكر» طالب جامعي يتابع دراسته بجامعة كولومبيا، شغوف بالقراءة، جذاب وألمعي، حلمه أن يصير شاعرا لذا يبدأ بكتابة محاولات شعرية منذ سنته الجامعية الثانية، درس الحقوق من أجل النضال ومواجهة الظلم ومؤازرة المقهورين . يقول : « إن الحقيقة المحزنة القائمة هي أن في هذا العالم الكثير من الشعر والقليل من العدالة « ص 83 .أما الشخصية الثانية فتدعى « رودولف بورن « أستاذ جامعي فرنسي يحاضر في العلاقات الدولية، أفكاره السياسية محافظة ذات نزعة حربية ونفوذ قوي، يمجّد الحرب ويمدحها، وستكشف الرواية، فيما بعد، عن ارتباطاته الغامضة بالمخابرات وماضيه الأسود حين شارك في تعذيب الجزائريين زمن الاحتلال .
الخلفية الزمنية للرواية هي أواخر الستينيات وأوائل السبعينيات حيث الحدث الأبرز عالميا هو حرب أمريكا على فيتنام وتورطها في هذا المستنقع وهزيمتها فيه ،ما نجم عنه تمريغ صورتها وظهور حركات الرفض لهذه المغامرة الإمبريالية في أوساط الشباب والمثقفين.. كان موقف « آدم والكر» مناهضا لها، ماقتا للمغامرة والظلم الأمريكيين1.
تلتقي الشخصيتان لإنجاز مشروع مجلة أدبية تكون ذات صيت في المشهد الثقافي الأمريكي، يموّلها « بورن « ويديرها « والكر»، يدعو الأستاذ الجامعي الطالب الشاب إلى عشاء يمنحه خلاله شيكا لتمويل المجلة، وبعد خروجهما من المطعم،يعترض سبيلهما شاب زنجي لسرقتهما، فينقضّ عليه بورن، ثم يطعنه بضربة سكين في بطنه ليسقط الزنجي متضرجا في دمائه..هذا المشهد الدموي السادي لم يرق لوالكر الإنساني النزعة الذي اتصل بجهاز الإسعاف قصد إنقاذ الشاب من موته ضدا على رغبة « بورن « الذي سيسحب الزنجي ويجهز عليه بطعنات ترديه قتيلا..
ضمير الشاب الطالب يؤنبه، يحاول إخبار الشرطة ..وبعد أسبوع من التردد سيتصل بها، لكن بعد فوات الأوان، بحيث سيغادر» بورن « التراب الأمريكي هاربا من عقوبة السجن..
تعتمد هذه الرواية على مجموعة من الأساليب السردية المتنوعة منها الكتابة داخل الكتابة والمذكرات والرسائل والتأمل في حال الكتابة الأدبية وقضايا الترجمة.. وهي أساليب تخدم تعدد الأصوات المتصارعة التي تنقل وجهات نظر متباينة بخصوص الوجود والواقع .
الكتابة داخل الكتابة:
يبدأ القسم الثاني بظهور شخصية جديدة « جيم فريدمان» ناقد أمريكي مشهور وصديق أيام الجامعة لآدم والكر، لم يلتقيا منذ أربعين سنة، يذكر الناقد أن رسالة وصلته من صديقه « والكر» يخبره فيها عن مرضه الذي يقاومه « سرطان الدم» وعن صعوبات الكتابة التي تجابهه وهو بصدد تأليف كتاب، يحار الناقد المبرّز ( مرآة لبول أوستر؟ ) في إيجاد السبيل التي سينقذ بها صديقه من معضلات الكتابة، ثم يشير أنه قد خبر بدوره حيرة الكتابة ،فيوصيه بالإنتقال من استعمال ضمير المتكلم في السرد إلى ضمير الغائب .
إذا كانت رواية « بول أوستر» مكونة من أربعة أقسام فإن محكي « آدم والكر» مشكل من ثلاثة أقسام اختار لها أسماء الفصول الأربعة، كل قسم منها كتب بصيغة وزمن مختلفين، ف»ربيع» كتب بضمير المتكلم و «صيف» صيغ بضمير المخاطب و « خريف « استعمل فيه ضمير الغائب..يمكننا اعتبار هذا المحكي رواية عائلية ورواية تكوين وتعلم في آن واحد Roman initiatique، يصف فيها نشأته وأسرته وموت أخيه المبكر غرقا وما تركه هذا الحدث المأسوي من حزن دفين في الوالدين ..وبخاصة الأم التي انهارت وصارت تدمن العلاج الطبنفسي، غيّر هذا الحدث مجرى حياة البيت الأسري فأضحى « منزلا للدموع «، كما يعرج على تفوقه وألمعيته وعلاقته المتينة بأخته وهي مزيج من الإعجاب والميل الشديد والإتحاد.. وميولاتهما الأدبية، ومناقشاتهما لأذواقهما واختياراتهما في ميادين الشعر والرواية والموسيقى والسينما.
كانت أخته « كوين» سنده الروحي في بيت العائلة بعد أن تفككت لحمتها و فصمت آصرتها إثر حدث « النكبة «، وحين غادرت الأخت المنزل لمتابعة دراستها الجامعية، شعر» والكر» بأنه يعيش « منفى داخليا «، فما كان ليحيا حياة سويّة، متوازنة لولا أخته، كان بمقدوره أن ينسحق ويختنق ويشارف حافة الجنون..
يصف الناقد القسم ( صيف) الذي توصل به بأنه أكثر قسوة واضطرابا من القسم « ربيع»، وهو فصل حسن أعجبه بالرغم من « هوله « و»صدمته» ( إشارة هنا إلى الوصف الجريء الدقيق لعلاقة والكر الجنسية- العاطفية مع أخته « كوين» ) .
يسرد قسم « خريف» أحداث مقامه بباريس التي وصل إليها عام 1967 ورفض أن يقيم بمأوى للطلبة الأمريكان، بل اختار العيش في فندق عتيق، بال، متآكلة جدره وحائلة ألوان أثاثه . لم يكن الهدف من إقامته الباريسية لقاء الطلبة الأمريكان أو الحديث بالإنكليزية، وإنما تحسين مستواه في اللغة الفرنسية2 ..كان ينفق أوقاتا مهمة في كتابة قصائد شعرية لا يغادر غرفته إلاّ حين يستبدّ به الجوع ..وفي المساء كان يذرع الشوارع وحيدا أو يختلف إلى المكتبات.
في باريس سيلتقي ببورن ( ههنا يوظف « بول أوستر» إحدى التيمات الأثيرة عنده، عنيت تيمة المصادفة ..3) فيتحدثان عن حادثة القتل ويدافع « بورن « عن موقفه مبررا أن ما فعله مجرد دفاع عن النفس وإنقاذ لحياتيهما معا، لكن موقف « والكر» منه لم يتغير، إذ ظل يعتبره دائما شخصا كريها، منفّرا، ومجرما ..ستتيح له هذه المصادفة أن يتعرف على شخصية سيكون لها دور مؤثر في مسير أحداث الرواية، شخصية « سيسيل « الطالبة الشابة ذات الثقافة الواسعة في مجالات الأدب والفن والتاريخ .. ذات يوم وهو في غرفته وحيدا يتأمل سماء باريس الداكنة المليئة بالسحب الرمادية الثقيلة، يقرأ كتابا أو يحاول كتابة أبيات من قصيدة .. وقد مرّت عليه أربعة أيام وهو على هذه الحال ..إذا بطرق على بابه ..هي « سيسيل» تشتاق إليه فتأتي لملاقاته في غرفته البائسة في هذا الفندق المتهالك،تضمّن حوارها معه عتابها له لمّا خاضا في شؤون الأدب والفن والفلسفة والموسيقى، وصمتا عن شؤون الجسد والحب والمتعة الحسية، قالت له : « لماذا لا تلمسني ؟ لا تداعبني؟ أأنا دميمة؟ لا أعتقد هذا، إنّ لي حظّا من الجمال والذكاء ..»
يتدخل السارد – الناقد ليشير إلى أنّ الصفحات الثلاث الأخيرة من «خريف « يسمها ضعف في القدرة على الكتابة ..تدهورت صحة « والكر» وخانته قواه، فلم يعد يقدر على بناء الجملة بناء سويّا ..فصار يركّز في لمحات وجيزة على المشاعر الداخلية الحميمة، يقول : « الإنهيار يوشك أن يكون كاملا في الصفحات الثلاث الأخيرة، « والكر» في طور الرحيل عن هذا العالم، يحسّ أن الحياة طفقت تغادر جسده، ومع ذلك فإنه يواصل الكتابة ما استطاع إلى ذلك سبيلا، وهو جالس أمام حاسوبه يبتغي من ذلك اكتمال قصته.»
بمكيدة من « بورن» سيغادر « والكر» فرنسا مطرودا ومهانا ومنبوذا إلى الأبد..
الرسائل:
تستثمر الرواية أسلوب الرسائل الذي يتيح للشخوص أن تغور في ذواتها وتبوح بما يعتمل في المناطق الأكثر حلكة فيها، دارت الرسائل بين « آدم والكر « وصديقه القديم « جيم فريدمان « الناقد الكبير من جهة، وبين أخته « كوين « والناقد من جهة ثانية . في البداية يترك « والكر « لصديقه رسالة مؤثرة يوصيه فيها بمخطوطه « خريف « يقرأها الناقد اثنتي عشرة مرة إلى أن يحفظ عن ظهر قلب جميع كلماتها، تترك في نفسه شجنا عميقا، هذا نصها : ( مرت خمس دقائق بعد محادثتنا الهاتفية . أشكرك من أعماق قلبي على تشجيعك . بدءا من صباح الغد سأكلّف الخادمة بإرسال القسم الثاني إليك عبر البريد السريع، إذا ما ألفيته، كما أعتقد، مقرفا فتقبّل أعذاري . ستلحظ أنّ هذه الصفحات التي يحويها هذا الغلاف تشكّل مشروعا للقسم الثالث، كتبت على عجل وبأسلوب موجز . لقد أتاح الإشتغال السريع انهمار الذكريات، طوفان من الذكريات، والآن وقد اكتملت هذه المحاولة، لا أدري إن كنت ما أزال قادرا على أن أجعل منها كتابا نثريا جديرا بهذا الإسم . أشعر أنّي منهك، جزع، ولربما على قدر من الجنون، سأضع المخطوط المطبوع في غلاف أعهده إلى ربيبتي كيما ترسله لك عندما لن يقيّض لي العيش حتّى موعد عشائنا المعلوم الذي لطالما ذكرناه، لم يبق لي إلاّ وقت ضئيل، وقد خارت قواي، وخذلني الزمن، وسأكون قد حرمت من الشيخوخة . أحاول ألاّ أكابد المرارة، لكن أنّى لي هذا؟ الحياة ذميمة . أعرف هذا حقّا، بيد أنّ الشيء الوحيد الذي أتمنّاه أن أعيش لبعض الوقت، لبضع سنوات على هذه الأرض التي تخلّى عنها الرّبّ . فيما يتعلّق بالصفحات أدناه، افعل بها ما تشاء، فأنت خديني، أنت خير الرجال، وأنا أومن بحكمك الذي تصدره على كل شيء . تمنّ لي حظا سعيدا في هذا السفر. مودّتي، آدم ) ص 158 .
فكّر الناقد أن يكتب رسالة عزاء إلى « كوين» بمناسبة رحيل أخيها، وحين عاد إلى منزله ببروكلين أخبرته زوجته بأن امرأة تدعى « كوين» تركت له رسالة صوتية تطلب فيها ملاقاته على وجه السرعة، مع هذا الحدث ستنعطف الرواية انعطافة أخرى تظهر معها وجهة نظر مغايرة لما قدمه « والكر» في كتابه عن علاقته «المحرّمة» مع أخته ..أفادت « كوين» بأنّ أخاها بعث إليها قبل رحيله رسالة أشار فيها إلى أنّ بإمكانها قراءة مخطوط عهد به إلى صديقه « جيم» واشترط ألاّ تقرأه إلاّ بعد موته، فقد تجده شنيعا ..قرأت « كوين « المخطوط وحين اتصلت بالناقد ظنّ أنها ستصرخ من فرط الغضب جرّاء فضيحة البوح (زنا المحارم )، غير أنها كانت هادئة، ساكنة ..أجابته بأن ما كتبه « آدم» عن « علاقتهما الجنسية المحرّمة « هو محض خيال مريض ليس له وجود في الواقع : ( أعرف أنّك لن تصدقني، و أعرف أنّك تعتقد أنّي أسعى إلى حماية نفسي.. وأنّي لا أرغب في الإعتراف بأنّ أشياء من هذا القبيل يمكنها أن تكون قد حدثت بيننا، غير أنّني أعدك بأن لم يسبق لها أن حدثت . منذ أربع وعشرين ساعة وأنا أفكر في هذه الأمور، والجواب الوحيد الذي يتبادر إلى ذهني هو أنّ هذه الصفحات هي استيهامات رجل يحتضر، حلم ما كان يودّ أن يقع، وهو ما لم يقع البتة ) ص 241 .
من سيصدق القارئ ؟ وأين الحقيقة؟ هذا جزء من اللامرئي والمستتر ..
في العام 2007 يسافر الناقد إلى باريس مع زوجته، وهي فرصة اغتنمها للبحث والنبش في آثار الفترة الباريسية من حياة « والكر»،كتب ل « سيسيل « رسالة يطلب فيها لقاءها للحديث عن « آدم « بعد أن أخبرها برحيله، فتلقّى منها الرسالة التالية : ( أشعر بالتلاشي بعد سماعي نبأ وفاة « آدم»، لقد عرفته بباريس لفترة وجيزة لمّا كنت شابة ..ها سنوات كثيرة قد انصرمت غير أني لم أنسه أبدا، لقد كان أول شخص أحبه في حياتي، وقد أسأت معاملته بطريقة قاسية جدا لا تغتفر، إلى الحدّ الذي لم تتوقّف معه عن وخز ضميري، لقد كتبت له رسالة اعتذار بعد عودته إلى نيويورك إلاّ أنها أرجعت إليّ مرفقة بالملاحظة التالية : مرسل إليه مجهول . )
كانت « سيسيل» فتاة ذات ثمانية عشر ربيعا في المخطوط، وصارت الآن في عامها الثامن والخمسين عالمة متبحرة،تدرّس بالسوربون،غارقة في الكتب والمخطوطات و الندوات الأدبية.
المذكرات:
في لقائهما وبعد أن لخص لها أهمّ اللحظات في مسير « والكر»، ذرفت « سيسيل « دمعا غزيرا، دمعا صادقا عفويا، وأخبرها أنه علم بتفاصيل علاقتها بآدم من خلال ما دوّنه في مخطوطه، وأخبرته أن الأسماء الأخرى التي ذكرها « والكر» وارتبط بها، رحلت بدورها عن هذا العالم، ماتت أمها « هيلانة» جراّء مشاكل في القلب، وماتت عشيقته السابقة « ماركو» منتحرة، كما مات « بورن « قبيل زيارة « جيم « إلى باريس . في ختام لقائهما تركت له مذكراتها – التي ستختتم بها رواية بول أوستر – ورسالة تشكره فيها على تحمله لبكائها الغريب الذي لا يغتفر، وعلى الوقت الذي كان خصصه للحديث عن « آدم» معها .
في مذكراتها تقدم « سيسيل» اضاءة لجوانب من حياة شخصية « بورن» وقد أنهى حياته بمغامرة أخرى هي العيش في جزيرة خلابة نائية من جزر الكرايب، في منزل يسهر فيه على خدمته وراحته خدم سود (زنجي قويّ وسيم، وزنجيتان صغراهما مليحة كلّ الملاحة ) قالت عنه : « ما هي مشاعري نحو هذا الرجل؟ مشاعر صعبة غامضة، مزيج من الشفقة واللامبالاة، من الصداقة والحذر، من الإعجاب والإستغراب ..» ص 260 .
تروي المذكرات زيارتها له وصدمتها للحياة التي يحياها والتي تذكرها بجدلية السيّد والعبد، حين حمل الزنجي « صمويل» حقيبتها التي تنوء بالكتب على رأسه في طريق وعر صاعد مشيا على الأقدام حتى إقامة « بورن»، ذكرتها هذه الصورة – هي الطالبة اليسارية سابقا المشاركة بحماس في ثورة الطلاب عام 1968 – بفظائع الماضي الإستعماري وبأهواله في الكونغو وإفريقيا الفرنسية وبقرون الإستعباد.
غادرت الجزيرة بعد خلاف حادّ مع بورن، وفي طريقها إلى المطار تنادى إلى سمعها صوت فأصوات، فدنت منها لترى جماعة من الزنوج، رجالا ونساء، يعملون بمطارقهم في قدّ الصخور، عمل مضن ومنهك سيذكرها بعمل الزنوج في الماضي وهم مقيّدون بالسلاسل..
ظل صوتهم .. موسيقاهم يتردد في جسدها، يثوي فيه حتى بعد رحيلها عن هذه الجزيرة، ( في هذه اللحظة أيضا، وأنا جالسة في الطائرة التي تطير فوق المحيط، أسمع في رأسي وقع المطارق، يرافقني هذا الصخب دوما، إلى آخر أيامي، أنّى كنت، مهما فعلت، سيرافقني .)
رواية « المستتر» مربكة تتعدد فيها الشخوص والرؤى والسجلات اللغوية والعوالم وزوايا النظر ..قد يتيه القارئ فيها ويغرق، لكنّ خبرة الروائي ومراسه الطويل بشؤون هذا الجنس الأدبي تقيم نهجا ناظما يساعد القارئ على العثور – بعد لأي – على مخرج من هذه الرواية – المتاهة . بعد قراءتي لجلّ ما كتبه الروائي « بول أوستر» أرى أنّ هذا العمل الآسر قد حقق شأوا بعيدا في العمق والإكتمال . إنها رواية للمصائر التي تشتبك فتولّد المأساة، رواية قاتمة وذات حس تراجيدي عال، تنماز بعمق التناول وقوة الفضح والتعرية وسعة الخيال الروائي واستبطان النفس البشرية وإثارة أسئلة الكتابة والوجود بطرق تبهر القارئ وتجعله يبحر في عوالم، بالرغم من تعقيداتها وأهوالها وصدماتها، إلاّ أنّ الإبحار فيها ممتع ومغن . كما تختزل الموضوعات الأثيرة عند الكاتب، كالمصادفة وعزلة الكائن والتفكير في قضايا الكتابة والذاكرة ولعبة المرايا …