طوال حياته الفنية كان زياد الرحباني من ضمن الموسيقيين العرب الأشد غموضاً بسبب ندرة ظهوره على الفضائيات وعلى صفحات الجرائد إنما اقتصرَ على الفعل، وهذا الأفضل، حيثُ كان يقَدِّمُ أعماله بين الفترة والأخرى للسيدة فيروز بالإضافة للعديد من الفنانين والفنانات العرب «سامي حواط و سلمى مصفي» أو كما فعل مؤخراً عندما غنت له الفنانة لطيفة التونسية مجموعة من الأغاني التي من المفترض، كما صرَّحَ زياد في إحدى حواراته النادرة، بأن جزء من هذه الأغاني كانت في الأصل مجهَّزة للسيدة فيروز ولأن زياد يريد أن يعمل ولأن الست فيروز تحتفظ بالعمل لفترات طويلة فغن زياد قال: «بدي اشتغل» وفيروز لم تمانع، هكذا أنتج مجموعة أغاني تعتبر من أفضل أغنيات الفنانة لطيفة التونسية على الإطلاق.
ولد زياد عاصي الرحباني في أوائل يناير من عام 1956، أمه نهاد حداد «فيروز»، ووالده الفنان «عاصي الرحباني»… في عام 1973 قام «زياد» الصغير بتقديم أول لحن للسيدة «فيروز»، حين كان والده في المشفى حيث كان من المقرر أن تلعب «فيروز» الدور الرئيسي في مسرحية «المحطة» للأخوين «رحباني»، ولهذا كتب «منصور الرحباني» كلمات أغنية تعبّر فيها «فيروز» عن غياب «عاصي» لتغنيها في المسرحية، وألقى بمهمة تلحينها إلى «زياد»، وكانت تلك الأغنية «سألوني الناس» التي لاقت نجاحاً كبيراً وأدهشت الجمهور بعبقرية هذا الطفل الصغير وقدرته الغير طبيعية على إخراج لحن يضاهي ألحان والده.
ويمكن القول إن أول ظهور لزياد الرحباني على المسرح كان مسرحية «المحطة» حيث قام فيها بلعب دور المحقق، كما ظهر بعدها في مسرحية الأخوين «رحباني» ميس الريم بدور الشرطي الذي يسأل « فيروز» عن اسمها الأول والأخير وعن ضيعتها.
ثم بدأ زياد الرحباني جادَّاً مُجِدَّاً العمل في التأليف والتمثيل المسرحيَين، بعدها توالت أعمال زياد الرحباني المسرحية والغنائية.
يمكن اعتبار أوج العمل الحقيقي له تعاونهُ مع الفنان الراحل جوزيف صقر في المسرح والغناء وكثيراً ما عبَّر زياد عن أسفه نتيجة وفاة جوزيف صقر وتعرَّض زياد إلى حالة من الإحباط الكلي، فجوزيف صقر كان الشخص الوحيد الذي بمقدوره تحمُّل مزاجية زياد الرحباني – أعني مزاجيته في الموسيقى – وغناء الأغنية على أفضل وجه، فكان ثمرة التعاون بين القديرَين مسرحيات كثيرة «سهريَّة» وألبومات غنائية لعلَّ أهمها وأشهرها وأفضلها ألبوم «ما إنو» هذا الألبوم الذي يضم أفضل أغاني زياد وجوزيف صقر.
أُعتُبِرَ زياد الرحباني من خلال فنه، الضمير الناطق ولسان حال الفقراء والمُطالِب على الدوام بحقوق الشعب الفقير كل ذلك طبعاً بجرعات هائلة من السخرية وهي ليست سخرية مجانية ، بل سخرية تنطوي على الكثير من الذكاء والتقاط اللحظة التي يغفل فيه المسؤول العربي عن تقديم العون للمواطن المغلوب على أمره.
موسيقى وأغاني زياد هي الجانب النقيض تماماً من الواقع الذي في أغنية الراهن المتردّي حيث» اليوتوبيا» المضحكة والسخيفة والسهر مع الحبيب في حين أن الأولاد جائعون في المنزل أو أن شعباً بأكمله يحترق لحظة الغناء، فزياد أدرك أهمية الموسيقى ليس بمعناها التقليدي فحسب عن «إنَّ الموسيقى غذاء الروح» بل من مغزى إن الموسيقى بمقدورها تحرير الشعوب من الظلم ولو للحظة، وذلك اكبر إنجاز، أن توقِفَ الظلم ولو لدقيقةٍ واحِدَة، فدور الموسيقي ليس متوقفاً على تقديم لحن ذا مغزى روحي وانتهى الأمر، كلا على الإطلاق، بل يَكمُن أهمية دوره في إيصال الشعور إليك بأنَّكَ مظلوم.
مظلوم من أية جهة كانت، ليس مهماً، المهم هو أن تُدْرِكَ الظلم من خلال النغم والكلام الذي يأتيك وهذا بالضبط ما حاول زياد إيصاله إلى الشعب، إلى الإنسان، من خلال أغنياته الطريفة عن الوضع وصعوبة العيش والغلاء والظلم أو حتّى من خلال مقطوعاته الموسيقية التي تُشعركَ بالأخطاء الفادحة الحاصلة في الواقع أو من خلال مسرحياته التي لايتوانى فيها عن الشتم أحياناً وما يغفر له ان هذه الشتيمة ليست فذلكةٍ بل هي نابعة من قهر داخلي لا يستطيع زياد إخفاءه، وهو المتعود على الصراحة، إضافة الى ذلك لايمكننا إغفال تاريخ زياد السياسي الذي يعتبر من أهم كوادر الحزب الشيوعي اللبناني والذي طالما دافع عن لبنان وكرامة الشعب اللبناني فخلال الحرب وتدهور الوضع السياسي في لبنان قَدَّمَ زياد عدة مسرحيات إذاعية ومن أبرزها «العقل زينة» و»تابع لشي تابع شي» وهي عبارة عن «اسكتشات» ساخرة يعالج فيها زياد مع مجموعة من أصدقائه الفنانين اللبنانيين كل أوضاع البلاد سياسياً وإقتصادياً وإجتماعياً، لا بل وحتى أخلاقياً في ظل الحرب وبلغة لاتخلو من سخرية.
زياد الرحباني منذ نشأته كانَ مقتنعاً تمام الاقتناع بضرورة وجود جانب سخرية متمثل بالتهكم من كل شيء، هذا التهكم كان نابعاً من وضع لبنان الطائفي والإحساس بفقدان الأمل من كل شيء، على الرغم من أنَّ أغانيه دائماً تحمل معاني الأمل ولكن لمجرَّد السماع مرات متتالية ستكتَشٍف ببساطة إنها أغاني نابعة من صميم وجوهر اللا أمل.
وقد كانَ أول ظهور له في السينما ضمن فيلم «طيارة من ورق «ممثلاً دورَ الجندي العاشقن وهذا العمل حاز جائزة الأسد الفضي في مهرجان البندقية الستين للعام 2003.
ولايمكن إغفال التسجيلات القديمة له والتي لا يتم ذكرها في كل ببيلوغرافيا عن زياد ومنها أغانيه التي لحنها وكتبها للأطفال في ألبوم «حكايا الأطفال»، إضافةً إلى تلحين أناشيد دينية وعمله في الإذاعة وفي الصحافة حيثُ عمل في السفير والنداء ومن ثم جريدة الأخبار ككاتب مقال سياسي ساخر.
موسيقى زياد الرحباني مزيج غريب ما بين موسيقى عربية كلاسيكية وبين موسيقى الجاز بل ويمكن وصف بعض ألحانه بالجاز الصرف مثل حفلته المعنونة ب «بهالشكل» والتي هي عبارة عن ألحان معمولة وفق قواعد موسيقى الجاز، نحنحاته وكلامه بين القطعة الموسيقية والأخرى، يواجه زياد بكلامه وموسيقاه ضمير المنظِّرين: «أنا علقان بنفس الغرفة مفكِّر حالي أفلاطون».
هناك في تاريخ زياد الرحباني الموسيقي إرث آخر عظيم وهو تقديم السيدة فيروز بشكل مغاير للأخوين رحباني، حيث قدم زياد السيدة فيروز من خلال صوت جديد وألحان غربية استطاع من خلالها زياد اكتشاف مناطق كانت مجهولة في حنجرة السيدة فيروز كما في الألبوم «ولاكيف» الذي يحوي ألحانا صعبة ومعقَّدة.
لقد نجح الإثنان في تقديم موسيقى غربية لكن بكلامٍ وَنَفَسٍ عربي فمعادلة صعبة أن تغني كعربي ألحاناً صعبة لمغنية من صنف الفرنسية «إديث بياف» إلا أن زياد قام بحلّ هذه المعادلة بابتكار وذكاء، يمكننا القول إن فيروز «الزيادية» نسبة إلى زياد- تختلف كلياً عن فيروز «الأخوين رحباني» من ناحية الكلام والجملة الموسيقية والآداء وأيضاً من أعماله التي قَدَّمها للسيدة فيروز ألبوم «وحدون بيبقو» وألبوم «معرفتي فيك» وألبوم «كيفك إنت» وألبوم «سلملي عليه» وألبوم «ولا كيف» ومقدمة مسرحية «ميس الريم» ومقدمة مسرحية «بترا» وأغنية «قديش كان فيه ناس» ودبكة «يا جبل الشيخ» وأغنية «نطرونا كتير» وأغنية «حبو بعضن»، إضافةً إلى أغاني حفل «بيت الدين».
ومن أعمال زياد الرحباني المسرحية والغنائية والموسيقيّة «بهالشكل» و»مونودوز « و»بالأفراح» «بالنسبة لبكرا شو «و»فيلم أمريكي طويل» و»بخصوص الكرامة والشعب العنيد» و»هدوء نسبي» و»نصّ الألف خمسمية»، كما من المنتَظر إصدار ألبوم جديد للسيدة فيروز تحت عنوان «الله كبير» الذي يتضمن كلمات وألحانا لزياد الرحباني».
يبقى هنا أن أشير إلى زياد الرحباني الشاعر، فهو إضافةً إلى كلماته الغريبة والطريفة التي غنَّاهَا جوزيف صقر والسيدة فيروز وسلمى مصفي وهو بنفسه كما في ألبومه «أنا مش كافر» فإن زياد شاعر مميّز في ديوانه الوحيد «صديقي الله» والذي جمعه والده الراحل وتم طبعه في نسخ قليلة غير أن زياد صرح ذات مرة أنه عندما مرض والده قام بجمع كل تلك النسخ،
وبنظرةٍ متأنية لما هو مكتوب في الديوان نستنتج أن زياد يملك طاقة وجدانية روحية، ديوان كان دلالةً على زياد اليوم، حيث أن الديوان صدر وعمره ثلاثة عشر عاماً فقط.
يبقى زياد الرحباني عاطِلاً عن الأمل في كامل تجربته المسرحية والغنائية والموسيقية. كلامه وتنبؤاته بتردي الموسيقى العربية تحققت وهذا مانتلمَّسه في الفضائيات العربية التي تغدق علينا بتفاهات وسطحيات لايقبلها عقل ولا ذوق موسيقي، تلك جريمة ستؤدي بحياة فنانين كثر يرغبون بآذان نظيفة غير مشوَّشة من ألحان الآن الهابطة، آذان تصغي إلى موسيقى تخاطب الروح وليس الغريزة
جوان تتر/عن صحيفة العرب اللندنية