صورتان، بالأسود فقط /حليم يوسف مهنة شريفة

 

 

 

 

 

 

 

 

 
لدينا من الكرد من كتب التقاريرلأسياده لأكثر من أربعين سنة دون أن يرف له جفن. وان لم يكن قد شارك في الكتابة، فقد خدم النظام قياما وقعودا. وكان دائما محل ثقة شركائه في الوطن. فظل الصديق الصدوق لرفاقه، وكل من ظل خارج تغطية مزاجه السياسي كان مشبوها ومتآمرا وانفصاليا وعميلا لاسرائيل ومعاديا للوطن ولقائد الوطن وللانسانية جمعاء. وعندما هبت رياح الثورة العاتية، فتح صدره للرياح فرحا، غير وجهته. تغير كل شيء فيه، ما عدا مهنته التاريخية العريقة، فبدأ يكتب التقارير لرفاقه الجدد من المعارضة السورية. يترجم لهم الحالة الكردية ويصبح كل من لا ينتمي لعشيرته الحزبية شبيحا ومعاديا لثورة الكرامة والحرية. وبذلك أصبح الصديق الصدوق لرفاقه الجدد، يعتمدون عليه في تحديد أسماء من يحضرمؤتمرات ومجالس المعارضة ومن يشارك في الاعلام وفي الولائم العالمية العامرة. وعن طريق قلمه الذي ينقط وطنية سورية ، استطاع الرفاق الجدد تمييز شبيحة الكرد عن الثوار الأوفياء. وبذلك ازدهرت هذه المهنة التاريخية العريقة بين الكرد السوريين، وتسابقت عليها أعداد هائلة من الأدباء و المثقفين والمحامين ومدمني الفيسبوكوسائقي شاحنات الشعر والسياسة من مختلف التوجهات، حتى أصبحت أكثر المهن رواجا في زمن الثورة. كثرت الدكاكين الثورية. لكل دكان صاحب، ولكل صاحب دكان زبائنه الخاصين الذين يشيدون بتحليلاته السياسية وبمواقفه الثورية الشجاعة، سواء بالكلام أو بالكتابة أو برشه بوابل من اللايكات في الفيسبوك. وبفضل رواج هذه المهنة، تبدوالساحة السياسية الكردية وكأنها مجموعة دكاكين ضيع أصحابها مفاتيحهم على طرق لايعرفونها.
ثورة السيد هاء
في بلدتي الحبيبة عاموده الصامدة، وقبل بدء الثورة وبدء الانقطاع المستمر للكهرباء بسنوات عديدة، كان يدير فرع الأمن العسكري في البلدة شخص اسمه أبو محمد. لدى قدومه الى عاموده كان نحيفا، رشيقا، له شارب أسود مشذب، ومتوسط القامة. استطاع أبومحمد هذا أن يتحول وفي زمن قياسي الى شريك عشرات المزارعين من أهالي عاموده، وله حصة في مال كل من ينتظر موسم القمح والشعير والعدس. وقسم آخر، وخاصة من أغنياء عاموده, يأتي اليه راضيا مرضيا بمبلغ يتناسب مع محصوله من موسم الحصاد، فيدفع له ما يجعل أبو محمد راضيا عنه طيلة الوقت وحتى قدوم وقت موسم جديد. واستطاع بذلك أبومحمد أن يصبح ضيفا دائما على موائد بعض الميسورين من أهالي عاموده والقرى التابعة لها. ولم يكن السيد هاء، وهذا هو الحرف الأول من اسمه، سوى أحد هؤلاء الذين كان يلجأ اليهم بعض المساكين من أهالي عامودا عندما يعلق أحدهم بشباك أحد عناصر أبو محمد، ليخلصه من هذه (العلقة). كان السيد هاء لا يقصر في خدمة أهالي بلده، و لكن بمقابل طبعا. ودارت الأيام وأصبح أبو محمد رجلا سمينا، غليظ الرقبة. وبقي رأسه صغيرا رغم تفلطح مؤخرته التي بدت وكأنها قطعة منتفخة ملصقة به من الخلف، وليست له. كل ذلك بفضل السيد هاء وأمثاله من الكرد العاموديين الأصلاء، كما كان أبو محمد يسميهم في أحاديثه الشيقة. مرت سنوات قليلة، مات من مات واختفى من اختفى وكان أبومحمد أحدهم. وفي زمن الثورة التحق به عناصره وفر الجميع من عاموده بجلدهم ، تاركين وراءهم رماد أوراق قديمة وتقاريرمحترقة فيها الكثير من الأسرار التي بقيت الى هذه الساعة غامضة ومبهمة. وبما أن البلدة سارعت في المشاركة بفعاليات الثورة، فان السيد هاء كان السباق في دعم أول مظاهرة وأول تنسيقية وأول فعالية ثورية في المدينة. كما كان أول الرافضين لأن يخرج هويته لعنصر الأسايش على طريق عاموده – الدرباسية. ودخل في عراك معهم وهو يسخر منهم ومن سلطتهم الكرتونية. ولم تمر أيام على هذه الحادثة حتى دفع بالعشرات من شباب الثورة الى شوارع عامودا وهم يهتفون ضد من أهانوه بطلب الهوية (عاموده حره حره، شبيحة تطلع بره). واستطاع السيد هاء بعد اعتقاله المتكرر أن يصبح رمزا للثورة وممثلا لها في المعارضة الوطنية. وقد تسبب مؤخرا في العديد من الحوادث الهامة التي ستدخل في تاريخ المدينة. وقد أقسم بعض شباب الثورة بأنهم سيصنعون له تمثالا ، سيتم وضعه في مكان تمثال حافظ الأسد الذي حطموه مرتين، وذلك بعد طرد الشبيحة من المدينة.