الحسكة (سوريا) -في بلد يشهد حربا دموية دخلت عامها السابع، تحولت صيانة الأسلحة إلى مهنة مربحة. وبعدما كانت تقتصر على تصليح بنادق صيد العصافير والبط باتت اليوم تشمل المسدسات والرشاشات مثل الدوشكا الروسية والكلاشنيكوف.
في المقابل، تعتبر تجارة السلاح والذخائر تجارة رائجة، يمارسها في سوريا عدد ليس بالقليل في ظل ندرة فرص العمل وكثرة العرض والطلب على هذه السلع.
وتدر هذه التجارة على أصحابها ربحا يضمن للبعض معيشة مقبولة، فيما يسيطر أمراء الحروب (الحيتان) على حصة الأسد من أرباحها.
الخطأ الأول هو الأخير
في حي العزيزية بمدينة الحسكة، يتوسط محل أبومحمد (47 عاما) متاجر عدة لتصليح السيارات وإلى جانبه لافتة كتب عليها “تصليح كافة أنواع الأسلحة” مرفقة بصور لبندقية كلاشنيكوف ومسدس حربي وبنادق صيد.
يبدل أبو محمد قطعة في مسدس صغير ينهمك في تصليحه، وأمامه طاولة كبيرة وضع عليها أجزاء من بنادق ومسدسات، وإلى جانبها آلة يستخدمها لتصنيع قطع صيانة خاصة بالأسلحة.
لا يبدو أبومحمد فرحا بالعمل الذي يقوم به، خصوصا بعدما فرضت عليه الحرب تصليح أسلحة قتالية بدلا من بنادق الصيد التي اعتاد على صيانتها.
يقول وقد لطخت بقع من الزيت الأسود ثيابه ويديه “دفعتني الحرب في البداية إلى ترك المهنة لفترة من الوقت، لم أشأ أن أتعامل مع الأسلحة القتالية”. إلا أن الحاجة الماسة إلى العمل أجبرته على العودة إلى مصدر رزقه الوحيد.
واضطر منذ ذلك الحين إلى التعامل مع أسلحة مختلفة من مسدسات وبنادق آلية ورشاشات، محاولا قدر المستطاع أن ينأى عن الأسلحة الثقيلة.
ويوضح أبومحمد “مهنتنا تحتاج إلى تركيز كبير وكأنك تتعامل مع الألغام”، مضيفا “الخطأ الأول فيها هو الأخير”.
ونتيجة هذه الخطورة، ينتظر أبو محمد بفارع الصبر أن تتوافر له فرصة عمل ثانية ليترك هذه المهنة “إلى غير رجعة”. ويؤكد قائلا “صيانة أي قطعة صيد تجلب المتعة لصاحبها أفضل بكثير من صيانة آلة الموت هذه”.
لم يكن أبومحمد يتوقع أن تتحول سوريا إلى ساحة حرب طاحنة بهذا الشكل. ولكي يتمكن من الاستمرار في مزاولة هذه المهنة، يردد لنفسه باستمرار إن “كل البنادق والمسدسات التي أقوم بصيانتها هي للدفاع عن البلد، وليست لصناعة الموت فيه”.
ويقول البعض إن هذه الظاهرة جديدة على المجتمع السوري، ولكنها فرضت نفسها كمصدر للدخل لبعض الفئات التي لم تجد مورد رزق آخر.
بنادق صيد وأسلحة حربية
تحت لافتة كتب عليها “تصليح كافة أنواع الأسلحة”، ينهمك عبود جان في صيانة بندقية كلاشنيكوف جاء بها أحد زبـائنه المقـاتلين إلى متجره الصغـير في مـدينة الحسكة السورية.
يعمل عبود جان (36 عاما) في هذه المهنة منذ 15 عاما لكنه وجد نفسه خلال السنوات الماضية مضطرا إلى التعامل مع أنواع جديدة من الأسلحة لم يعتد عليها سابقا.
يقول جان في متجره وسط مدينة الحسكة (شمال شرق) “كنا نصلح أسلحة صيد، لكن الأمر اختلف علينا خلال الأزمة وبتنا نصلح قطعا كبيرة بالإضافة إلى المسدسات من بينها (رشاشات) الدوشكا والبي كي سي فضلا عن الأسلحة الروسية الخفيفة”. ويختلف زبائن عبود اليوم بين مواطنين يملكون سلاحا فرديا صغيرا لـ”الحماية” ومقاتلين.
يدخل فريدي (31 عاما) إلى متجر عبود ويعطيه مسدسا صغيرا يطلب منه تصليحه في أقرب وقت. يقول فريدي الذي يعمل صائغا في الحسكة “قبل الحرب كانت لدي بندقية صيد وكنت أتردد على المحل هنا لأصلحها بين الحين والآخر، ولكن منذ بدء الحرب اشتريت مسدسا”.
ويضيف “أبقيه معي كل الوقت، فقد شهدنا حالات خطف عدة خلال الحرب”، مشيرا إلى أنه يخشى أيضا من السرقة، خاصة وأنه يعمل في تجارة المجوهرات.
أكثر الأعطال التي يصلحها جان عبارة عن أعطال ميكانيكية في مخزن الرصاص أو بيت النار ناتجة عن الاستخدام المتكرر للسلاح من دون صيانة.
ويرى جان أن خبرته الطويلة في تصليح بنادق الصيد سهلت عليه مهمته الجديدة. وبات يستقبل حاليا معدل عشرة زبائن في اليوم.
لا تكلف صيانة الأسلحة الكثير وإن كانت تختلف بحسب نوع السلاح. ويقول عبود “الأسعار مقبولة ومتناسبة مع الواقع الاقتصادي في البلاد”، مشيرا إلى أن ثمن تصليح المسدس يترواح بين “ألف وخمسة آلاف ليرة سورية (من دولارين إلى عشرة دولارات)” ويرتفع السعر بحسب نوع السلاح وحجمه.
وبرغم أنها المهنة الوحيدة التي عرفها، إلا أن جان يرفض أن يورثها لأبنائه، بل يفضل أن يتابعوا تعليمهم ودراستهم ويختاروا مهنة أخرى بعيدا عن السلاح وخطورته، بخاصة بعد تعرضه للتهديدات من تنظيم داعش.
ويقول “تم تهديدي اكثر من مرة من أجل تصليح سلاح لعناصر في تنظيم الدولة الاسلامية خلال وجودهم في احد أحياء المدينة قبل طردهم منها قبل عامين”.
يأتي فايز (25 عاما) إلى المحل حاملا بندقيته من طراز كلاشنيكوف. يتسلمها عبود منه ويعاينها جيدا، فينظر عبر المنظار، ثم يفصل جزءا من البندقية ويعيد تركيبه. وما هي إلا دقائق حتى يعيدها إلى زبونه وقد تم إصلاحها.
الحرب تجارة رابحة
“من قال إن الحرب لعنة على الجميع؟” ففي الوقت الذي يرزح فيه معظم الشعب السوري تحت وطأة الفقر، تراكم طبقة جديدة من تجار الحروب الثروة.
أبومحمد السوري، تاجر السلاح، آخر نموذج لهذه الفئة التي أحسنت تطبيق مقولة الشاعر العربي القديم “مصائب قوم عند قوم فوائد”. فقد أضحت تجارته التي تستهدف تحديدا مناطق المعارضين مربحة جدا.
يبيع أبومحمد أنواعا مختلفة من القذائف الصاروخية والذخيرة والسيوف وأسلحة خفيفة أخرى.
وفي معمل تصنيع الأسلحة الوحيد في حلب، يقول هذا الرجل البالغ من العمر 39 عاما “الحرب تجارة رابحة”.
ويؤكد أبومحمد الذي عمل في أحد مصانع الأسلحة قبل اندلاع النزاع السوري، أن تجارته تؤمن له مدخولا بنحو 50 ألف ليرة سورية يوميا (370 دولارا أميركيا).
على جدران المتجر، يعرض مختلف أنواع الأسلحة، من مسدسات عيار تسعة ملم، ورشاشات “كلاشنيكوف” وقنابل متنوعة.
ويوضح نجل أبومحمد، وهو مقاتل يساعد والده في متجره، أن هذه الأسلحة “مصنعة في العراق وروسيا، وتتراوح أسعارها بين 1500 و2000 دولار، بحسب جودة كل منها”. ويضيف “نبيع أيضا ملابس عسكرية، وجزمات، وأقنعة واقية من الغاز وأجهزة اتصال لاسلكية”، مشيرا إلى أن “غالبية هذه المعدات تأتي من تركيا”. ويؤكد أنه مسرور في عمله لأنه يعشق الأسلحة.
يشهد متجر أبومحمد إقبالا متزايدا من مقاتلي المعارضة ومن بعض المدنيين الذين يسعون إلى امتلاك السلاح لحماية عائلاتهم من ويلات الحرب.
يدخل محمد عاصي (43 عاما) المتجر مع العديد من رفاقه، بحثا عن ذخيرة لبنادقهم. يقول، وهو يحصي الرصاصات، إنه يرغب في استبدال السلاح الذي يستخدمه “إلا أن هذه النماذج ليست جيدة وأسعارها مرتفعة”، قبل أن يسدد مبلغ 15 ألف ليرة سورية (110 دولارات) ثمنا لـ150 طلقة.
ويتنهد قائلا “100 ليرة لكل طلقة. الرصاصات باتت عملة نادرة، ولهذا أصبحت مكلفة جدا”. ويعتمد أبومحمد على مهارته في التجارة للتعويض عن نقص السيولة لدى زبائنه.
ويبحث بعض الزبائن عن منتجات أكثر تخصصا. يقول أحد المقاتلين إنه يريد “منظارا يتيح لنا تحديد القناصة على جبهات القتال”. ويعرض آخر ثلاثة سيوف على أبومحمد الذي يسحبها من أغمادها للتحقق من جودتها.
ويوضح أنه يشتري أسلحة “من الأشخاص الذين يحتاجون إلى المال لإعالة عائلاتهم”، مضيفا “قبل اندلاع الحرب، كان العديد من السوريين يجمعون السلاح، أو يحتفظون به بعد خدمتهم العسكرية. إنهم لا يستخدمونه، لذا يحضرونه لي للاستفادة منه”. في حين أن غالبية زبائن أبومحمد هم من المقاتلين، إلا أن بعض المدنيين أيضا يقصدون المتجر للتزود بالذخيرة.
يعترف ببيعه السلاح إلى المدنيين، لكنه يستدرك مباشرة بالقول “لا أبيع المدنيين أي رشاشات حربية، أبيعهم فقط بنادق الصيد والمسدسات من عيار تسعة ملم”.
ويقول رجل ستيني قدم مع حفيده إلى متجر أبو محمد “بسبب الوضع، أفضل أن أكون مسلحا لحماية عائلتي”. عن العرب اللندنية