من المعلوم أن الأزمة السورية حملت في طيّاتها ما حملته من دمار وقتل وتشويه، وأن ما يتناقله أطفال سوريا من أحاديث، تدلّ كل كلمة منها على تأثير الحرب على الحالة النفسية، لأنهم يعيشون حالة رعب دائمة جرّاء مشاهد العنف التي حفظتها ذاكرتهم.
لم تسلم بقعة من سوريا من القصف والدمار، وجبهات الحرب بين المتنازعين، كانت ولازالت المناطق الكردية، مناطق آمنة نسبة إلى ما تشهده المناطق الأخرى في سوريا، وبسبب الأمن والأمان الذي تعيشه المناطق الكردية، وفشل جميع محاولات استجرارها إلى ما حصل ويحصل في سوريا، فلم يبقَ أمام الإرهاب سوى الانتقام على طريقته في القتل والتدمير في المناطق الكردية.
حيث شهدت مدينة قامشلو في الآونة الأخيرة تفجيراً إرهابيا استهدف الحيّ الغربي, وراح ضحيّته العشرات من الأبرياء معظمهم من الأطفال والنساء, وخلّف هذا التفجير – عدا الضحايا والدمار- أثراً سلبياً على حياة معظم أطفال قامشلو, سيّما أطفال الحي الغربي والقريبين من موقع التفجير, حيث تغيّرت أنماط سلوكهم وتصرفاتهم جرّاء التفجير, وزاد من قلقهم سلوك الوالدين أمامهم وتكرار الحديث عن تفاصيل التفجير دونما وعي، في حين كان الأولى بهم العمل على تلطيف الأجواء وعدم إظهار مخاوفهما من التفجير، والتّحلي بالتّفاؤل والأمل.
صحيفة Bûyerpress التقت بأولياء بعض الأطفال, حيث شرحوا الوضع النفسيّ الذي آل إليه حال أبناءهم.
– إبنتي الكبيرة سايا وعمرها 10 سنوات بامتناعها عن الذهاب لوحدها لأي غرفة من البيت حتى لو كانت مضاءة, وتريد دوما أن يرافقها أحدنا.
الدكتور صلاح أحمد والد الطفلة “سايا”, وهو أخصّائي في طبّ الأسنان وجراحتها, فقدَ كامل عيادته أثناء التفجير, كما استشهد فيها مراجعيْن اثنين قال: “لم نلاحظ في الفترة التي تلت التفجير أي تغيير في وضع أطفالنا, وربما يعود السبب إلى انشغالنا بالوضع الخاص والعام حينها, ولكن بعد فترة وخصوصا بعد رؤيتهم لما آل إليه حال العيادة بعد التفجير والمكان ككل وأيضا عدم انتباهنا لكل ما كان يقال عن الشهداء أو المفقودين أو الجرحى وخاصة صديقي وجاري بالسكن الصيدلي جوهر رحمه الله وأيضا وصفنا نحن ومناقشاتنا مع ضيوفي في المنزل عن التفجير والمفقودين دون الانتباه لهم بأنهم يسمعون كل ما يدار من أحاديث وخاصة أنهم لديهم تراكمات سابقة عن إعدامات داعش الوحشية والتفجيرات والبراميل والحواجز العسكرية وانتشار السلاح والمعاناة اليومية, كل هذا أثّر بشكل أو بآخر على نفسياتهم ومضاعفة الخوف لديهم”.
ويضيف أحمد:” طبعا كنا نحاول دوما أن لا نحضر الأخبار على التلفاز أمامهم, لكنهم كانوا أحيانا يتحدثون لنا عن داعش عن طريق أصدقائهم الأطفال في المدرسة, وكنا نحاول أن نبرّر ولكن هيهات..!”
ويتابع أحمد:” بدأت الحالة النفسية لابنتي الكبيرة سايا وعمرها 10 سنوات بامتناعها عن الذهاب لوحدها لأي غرفة من البيت حتى لو كانت مضاءة, وتريد دوما أن يرافقها أحدنا, وأيضا خوفها من أصوات إطلاق الرصاص .. أما ولدي سامان وعمره 8 سنوات فخلق التفجير لديه حالة من الهلع أثناء النوم, ورؤية أحلام وكوابيس مزعجة, وبشكل يومي, وفي الصباح نحاول إخباره بهلعه وكلامه وهو يردد ضحكة طفولية أنه لا يتذكر ولا يعلم عما نتحدّث.. بالمجمل أيضا طفلتي الصغرى سيميل وعمرها 4 سنوات بدأت هي أيضا تكرر حالة ابنتي الكبرى سايا وتخاف مثلها, ولكن أظنها من باب التقليد”.
تسأل رونا: “أيهما أكبر عدداً الآساييش أم داعش, وأخيراً سألت هل الموصل بعيدة عن قامشلو, وهي تقصد أن داعش تحارب في الموصل ولن تعود إلى قامشلو ثانية”؟
أما ماجدة عثمان والدة الطفلة رونا فتحدّثت عن لحظة التفجير التي حصلت في ذلك اليوم الأسود كما وصفته وقالت:” لم أرَ إلا موجة من الغبار والأتـربة والزجاج تدخل المطبخ ونحن نعدّ طعام الافطار, سُمع بعدها دوي انفجار عظيم وكأنه في فناء الدار, صرخنا جميعنا, سقطت النافذة الكبيرة بالقر ب منا, وانهال كل ما في المطبخ من أدوات فوق رؤوسنا, وما عاد بالإمكان التحرك إلا فوق الأواني وقطع الزجاج وجرح ابني, لحسن الحظ كان باب المطبخ مفتوحا, وإلا كان قد سقط فوق أحدنا”.
وأضافت عثمان” كانت ابنتاي نائمتان في الغرفة المجاورة, هرعت الكبيرة وحملت أختها النائمة بقرب النافذة التي خُلعت من مكانها أيضا ولم يبقَ من زجاجها شيء, وبدأت بالصراخ مثلنا, بينما الصغيرة مشدوهة مما يجري وقد سيطر عليها الهلع”.
وعن الحالة التي عاشتها ابنتها في الأيام التي تلت الانفجار قالت عثمان:” لا أنكر أن ابنتي كانت تسهر لوقت طويل من الليل كون الوقت صيف ولا دوام مدرسي لديها, وكانت تذهب لفراشها وحيدة حين تنعس, ولكن تغير وضعها بعد الانفجار تماما, ما عادت تنام لوحدها, ترفض الذهاب للفراش, تجلس معنا حتى ينهكها النعاس, وتنام على الأرض أو في حضن أحدنا, وفجأة تستيقظ مرتعبة وتقول هل أقفلتم باب الدار جيداً, ثم تنهض لتتأكّد بنفسها”.
وتتابع عثمان:” قمنا بتركيب زجاج جميع النوافذ وكذلك زجاج باب الغرفة المطلّ على الشارع, ولأن الزجاج ” المحجّر ” مفقود, فقد قمنا بتركيب زجاج عادي شفاف إلا أنها لم تنم ليلتها إلا بعد إن أسدلنا عليها ستاراً.. صارت ابنتي تسأل أسئلة غريبة مثلا أيهما أكبر عدداً الآساييش أم داعش, وأخيراً سألت هل الموصل بعيدة عن قامشلو, وهي تقصد أن داعش تحارب في الموصل ولن تعود إلى قامشلو ثانية”.
تقول أم علي:” منذ اليوم الأول من التفجير أصيبت ابنتي الكبرى يارا ذي العشرة أعوام بصدمة كبيرة من الخوف مرافقة بحالات إقياء أحياناً, وفي بعض الأحيان كانت تتبوّل ليلا, على غير عادتها”.
أم علي وهي أرملة في العقد الرابع من العمر, تعمل في شركة خاصة وتعيل ثلاثة أبناء بعد وفاة زوجها قبل سنتين, كان تأثير التفجير على أسرتها كبيراً, فقد غيّر التفجير نمط حياة أطفالها بشكل كبير, وكان تأثيره عليهم مضاعفاً, سيّما أنه لا يوجد رجل في البيت يكون سنداً وملجأ لهم حين الحاجة.
تقول أم علي:” منذ اليوم الأول من التفجير أصيبت ابنتي الكبرى يارا ذي العشرة أعوام بصدمة كبيرة من الخوف مرافقة بحالات إقياء أحياناً, وفي بعض الأحيان كانت تتبوّل ليلا, على غير عادتها”.
وتتابع:” أما ابنتي الوسطى لارا, فقد صارت تتحجج بأن تختها غير مريح, وتشكو من البعوض ليلا, وطلبت أن تأتي خالتها للعيش معنا, أو ستنتقل هي للعيش معهم, وكل ذلك من الخوف, ونوبات البكاء التي كانت تنتابها ليلاً دونما سبب “.
– في مثل هذه الحالات ينصح الأخصائي عثمان بعدم ترك الطفل وحيدا في الظروف الصعبة وعزل من هم دون السابعة عن كل وسائل الإعلام.
يرى الأخصائي النفسي محمد علي عثمان من مركز سمارت للصحة النفسية و التنمية البشرية أن للكوارث والحروب آثار وانعكاسات على الأطفال و الأسرة من الناحية السلوكية والانفعالية والمعرفية مثل الانطواء، العدوان، القسوة، فقدان الهمة والنشاط، اضطرابات النوم، اضطرابات الأكل، الكذب. إضافة إلى الاكتئاب، حالات المزاج المتكدر، البكاء لأقل مثير، والتعلق العاطفي بالوالدين، الخوف المرضى، التوتر، القلق، الحساسية والانفعالية.
ولمعالجة مثل هذه الحالات ينصح الأخصائي عثمان بعدم ترك الطفل وحيدا في الظروف الصعبة وعزل من هم دون السابعة عن كل وسائل الإعلام التي تتحدث عن الوضع, وعدم إلقاء تعليمات الخوف على الأطفال كيلا تنعكس سلباً, وإشغاله عما يجري من حوله بالقصص والألعاب, وعدم البكاء أو الانهيار أمامهم, وضرورة تواجد الأب, ومنح الحب والحنان غير المشروط مهما كانت الضغوط.
مضى أكثر من ثلاثة أشهر على التفجير الذي استهدف حيّاً سكنياً آمنا في قامشلو ولا زالت آثاره النفسيّة تنهش في قلوب المارّة من الكبار قبل الصغار. يمرّ بها صغارنا الطلبة كل صباح وهم يحملون على ظهورهم حقائبهم وكوابيسهم إلى مدارسهم. وأن بقاء المكان بهذا الشكل له مضارّ نفسية على الكبار قبل الصغار, حسب وصف الدكتور صلاح أحمد والد الطفلة “سايا”.
وحتى نتمكن من زرع أفكار إيجابية في نفوسهم ونبعدهم عن التفكير بتلك الأجواء التي أثرت على جلّ حياتهم, لما لها من أثر إيجابي في التّخفيف من حدّة القلق، كما أن اللّعب خارج المنزل كفيل بتفريغ الشّحنات السّلبية الّتي تراكمت في نفوس الأطفال
نشرت هذه المادة في العدد 53 من صحيفة “Buyerpress”
1/11/2016