خاص – Buyerpress
تعرضت مدينة قامشلو في السابع والعشرين من شهر تموز المنصرم لتفجير تبناه تنظيم “داعش” الارهابي وراح ضحيّته العشرات من الشهداء والأبرياء من المدنيين وعدد كبير من الجرحى, قارب المئتين. عوائل بأكملها استشهدت تحت الأنقاض, وأجنّة لم ترَ النور, وعرسان خنق غبار التفجير أحلامهم, وعجائز كن ينتظرن نهاية هادئة تُتلى فيها قرب رؤوسهم ما تيسّر من آيات, وتتجه أصابعهم نحو قِبلة الله وتشهد حناجرهم بذكره, وأطفال لم يهنئوا بطفولتهم..
أبناء وبنات, وآباء, وأمهات الشهداء يروون تفاصيل ذلك اليوم, الأربعاء الأسود, أين كانوا لحظة التفجير, ماذا حلّ بهم, وكيف استشهد أبنائهم وأحفادهم.
الطفل الشهيد ديار خالد شيخموس مواليد 29/7/2004 كان يساعد عمّه “عنصر الآساييش” على “بسطة” لبيع الدخان, وحينما ذهب عمّه لحملة تحرير منبج, فأنه سلم “البسطة” لوالد ديار الذي كان يعمل عليها خارج أوقات الدوام حسبما يروي الجدّ.
في ذلك اليوم ذهب جدّه وجهّز “البسطة” ثم لحقه ديار باكرا, وليس في موعده المعتاد, واستلمها وعاد الجدّ للبيت, وما إن وصل أمام الباب حتى سمع صوت انفجار قويّ هزّ المدينة.
يقول الجدّ:” عدت فورا, وحين وصلت علمتُ أن مكروهاً حصل لحفيديّ, كانت معالم الشارع قد تغيّرت تماماً, بيوت بأكملها لم يكن لها أثر,بحثت هنا وهناك, انتشلت ثلاثة أشلاء من تحت الأنقاض, وحملت أحدهم ظنّاً مني أنه حفيدي ديار الذي أناديه بـ”ابني”, وحملناه لمشفى خبات العسكري, ولكن تبيّن أنه ليس هو, وبقينا نبحث طيلة اليوم في المشافي وبين الأنقاض دون جدوى”.
ويتابع الجدّ:” في اليوم الثاني عثرنا بين الأنقاض على بعضٍ من أشلاءه, وبعض القطع من دراجته..دفناه في مقرة الهلالية, وصادف يوم دفنه يوم عيد ميلاده..كم هو مؤلم وقاس أن تدفن حفيدك, فلذّة كبدك, بيدك..في يوم عيد ميلاده..!”.
تقول جدّته:” هو ابني, وليس حفيدي, ربّيته مذ كان رضيعاً..كان أبواه يعيشان في دمشق, وبعد إن كبر, ما عاد ديار يرضى بترك المنزل والعودة إلى كنف والديه”.
تضيف الجدة:” أمّه لم ترَه قبل استشهاده, آخر مرّة لمحته حين كان جالساً خلف “بسطته”, على طريق عامودا, وهي كانت في السيّارة في طريقها إلى “تل معروف”, حيث لم تكن قد التقته قبل ذلك بستة أيام, فقط لوّحت له بيدها, وسألته إن كان يريد مرافقتهم, ولوّح هو أيضاً بيده وقال سأبقى هنا, لن آتي معكم, لديّ عمل, هكذا كان اللقاء الأخير بين الأم والابن”.
وتتابع الجدّة بأسىً واضح:” كنت أزجره أحياناً, وأدّعي طرده, فربّما يتعلّق بأمه وأبيه, ويعود إلى كنفهما, كنت أقول له اذهب فقد كبرتَ, ساعدْ والدك, فهو بحاجة إليك أكثر منّا, يسكن بيتا بالإيجار, وعملك سيساعده في تحسين وضعه والتخفيف عنه.
لكنّه كان يبكي بشدّة ويقبض على مسكة الباب منادياً بأعلى صوته؛ أنتم تطردونني من بيتي, لماذا ربيتموني, وتطردونني الآن, لن أذهب, أكره العيش في تلك التلّة, في تلك القرية, في “الهلاليّة”, أكره العيش هناك”.
تختتم الجدّة حديثها بصوت مبحوح ليت والده “جدّه” تأخر يومها عشرة دقائق أخرى هناك, ولم يعد, ليته استشهد عنه, ليتني, ليتنا استشهدنا كلّنا, ولم يستشهد ديار, كان “وديعة” في بيتنا, ولم نستطع الحفاظ عليها. تمّر أمه الآن في حالة نفسيّة صعبة بعد استشهاده, مرّغتْ قبل أيام وجهها بتراب القبر, ولم تكن ترضى أن تغسله..كل من استشهد كان قطعة منّا, احترقت قلوبنا عليهم, دمائهم هدرت سدىً. لن ننساهم”.
تقول عمّته:” من هول الصدمة, حملنا بقايا جثة لم تكن لديار, بل كانت لابن أحد أقربائنا, جمعنا أشلائها ووضعناها في سيارة وأسرعنا إلى المشفى, كان وجهه متورّماً, وكان يشبه الشهيد ديار وملابسه أيضاً, هناك اكتشفنا أنها ليست للشهيد ديار, إنما كان الطفل الشهيد هوزان”.
وتتابع:” كان الشهيد ينام في تلك الزاوية من الحوش, ينهض صباحاً بهمّة عامل كبير, ويتوجّه إلى عمله, لم يتبقّى لي منه سوى جهاز “الآيباد” خاصّته, أينما التفتتُ ألمح طيفه, ربيته” كل شبرٍ بنذر”. لدغهُ عقرب قبل استشهاده بعشرة أيام, ليته توفّي حينها, ربما كانت الصدمة ستكون أخفّ”
وتختم حديثها بأسى بادٍ, يتملّك جميع حواسها:” أقمت له عيد ميلاد, بعد رحيله, جمعت أطفال الحارة, أصدقائه, وقطّعنا قالب الحلوى, ثم وزعتها عليهم, بينما الدموع تتسابق من عينيّ, ومن عيون أصدقائه الصغار”.