فلذّات الأكباد  في بورصة الاستغلال .. ظاهرة تسّول الأطفال

دليل محمود

لأن أرباحي اقتصرت على ألفيْ ليرة فقط, ما كان من عمي إلا أن يجلدني “بالكبل الرباعي “عقاباً لي.

 التسول ظاهرة سلبية ومرفوضة في حياة المجتمعات ذلك إنها تشير إلى حالة الفقر والعوز والحاجة والحرمان والتشرد، وقد دخلت في السنوات الأخيرة مرحلة النصب والاحتيال حيث استخدمها ضعفاء النفوس من الكبار كوسيلة للعب بعواطف ومشاعر الناس، مقابل الحصول على مبالغ مالية يكون حاصل مجموعها الشهري أعلى من راتب عدد كبير من الموظفين.

وقد برزت هذه الظاهرة واستفحلت في الآونة الاخيرة حتى باتت تكتظ بها الأسواق والشوارع وأبواب دور العبادة, ويعود سبب انتشارها إلى زيادة نسب البطالة وفقدان فرص العمل وقد يكون للحرب النصيب الأكبر من ذلك.

 في هذا التحقيق نسلط الضوء على هذه الظاهرة علنانساهم ولو بشكل بسيط في إيصالصورة للجهات المسؤولة لإيجاد حلول لهذه الظاهرة التي بدأت تنخر في دعائم المجتمع كما ينخر السوس في شجر العنب.
حسام طفل صاحب حنجرة ذهبية تعوّد المارة أن يروه في شارع فلسطين مغنياّ بصوته الشجي, لم يتجاوز الثانية عشرة من عمره, يقترب من أحدهم متباكيا وموحياً للجميع أنه يتضوّر جوعا, لكن الحقيقة أنه لايطلب طعاما يسد به رمقه وإنما يريد ثمن طعام لربّ عمل ينتظره مساء, ولا يغفر تقاعسه في عمله “التسوّل”.

ورغم أن حسام يقف في موقعه بشكل يومي, إلا أنه ماهر في اصطياد زبائنه, والإيقاع بعواطفهم, فهو يقترب من الأشخاص مرتادي المقاهي متباكياً خلال حديثه معهم عن الجوع الذي يكاد أن يفتك به, يغنّي ويهرّج لهم في نفس الوقت ولا ضير لديه أن يقوم بمسح أحذيتهم وتلميعها.

بعد أن أفلحت في كسب ودّه بالحديث إليه والتعاطف معه مرات عدة قال لي: ” أعيش مع عمي, هو الذي يجبرنا على التسوّل, ويطلب منا أن نجمع له مبلغا لا يقل عن خمسة آلاف ليرة يوميا, إذ نعمل جاهدين لتوفير ذلك المبلغ خوفا من العقاب”.

 وعن سبب وجود بقع سوداء على يديه وأرجله قال حسام: “هذه آثار الضرب لأني لم أتمكن من العمل كما يجب, واقتصرت أرباحي على ألفيْ ليرة فما كان من عمي إلا أن يجلدني “بالكبل الرباعي “عقاباً لي, لأنه يريد مبلغا محددا لينفقه على نفسه”.

 وفي منطقة أخرى, غير بعيدة , يتجوّل أحمد وأخوته الثلاثة ويقضون أكثر من ستة ساعات يوميا في التجول, ويعرفه كل طلاب كلية الزراعة والعلوم بالحسكة, إذ يرتاد الكلية بشكل يوميّ ينتظر الطلاب أمام الباب الرئيسي, فيسرع نحوهم ليهبوه ويمنحوه مافيه النصيب. أحمد الطفل الذي أبعده الحرب والفقر عن مقاعد الدراسة , وربما يكون ذنب الأب الذي يقبع في المنزل منتظرا أحمد وأخوته عند المغيب, ليأتي على ما جمعوه ناهباً أتعابهم دون وجه رحمة, ودون أن يتذكر بأنهم فلذّات أكباده.
إن ظاهرة تسول الاطفال في سوريا يصاحبها في كثير من الأحيان مجموعة من العوائق والصعاب تحيط بهم وترميهم في ساحة الاستغلال والاستثمار المادي والاقتصادي لقمة سائغة من  قبل البعض، إذ نلاحظ أن هنالك عوائل بأكملها تتسول هي وأطفالها، هذه العوائل تقودها نساء في أكثر الأحايين, عند إشارات المرور وداخل الاسواق العامة . ومن الممكن القول أن هنالك الكثير من العوائل المهاجرة من المحافظات المتضررة جرّاء الحرب على وجه الخصوص تمتهن عملية التسول بسبب الفقر وحالات الحرمان والعوز المادي والاقتصادي إضافة إلى وجود الكثير من الأطفال المتسربين من العوائل المشردة والتي تعاني من تفكك أسري وتربوي, وخصوصا في المناطق الشعبية في المدن.

 كل ما سبق يحرّك واقع التسول لدى الأطفال، حيث لم تجرِ إلى الآن دراسة حول عدد الاطفال الذين يمتهنون هذه الظاهرة وهل هي في تزايد مستمر, أم أن هناك جهوداً تعمل للتقليل من أثرها إن لم نقل زوالها؟

هل هنالك تعاون مشترك بين الاعلام ومؤسساته المتعددة وبين مؤسسات المجتمع المدني من أجل تجاوز ظاهرة التسول برّمتها وإحداث عملية توعية اجتماعية بمدى خطورة هذه الظاهرة على مستقبل الكثير من الأطفال في سوريا عامّة وفي المناطق الكرديّة خاصّة, هؤلاء الأطفال الذين تعقد عليهم الآمال في مستقبل الأمم, والذين من الممكن أن يتم استدراجهم إلىمجالات في غاية الجريمة مالم يتم تدارك الأمر.

نشرت المادّة في العدد (47) من صحيفة Buyerpress تاريخ 15/7/2016