قصّة إحدى أقدم بيوت عامودا.. البناء والطراز (بالصور)

خاص  – Buyerpress

– وقد فتح فيها الكثير من الشبابيك, لتخفيف الضغط على الجدران, وأيضاً تحسباً لأي هجوم من قبل اللصوص, وكي تبقى أطراف المنزل على مرمى بصره.

– بنى الوالد خزان مياه من الاسمنت مثبت على أربعة أعمدة مبدأ “الحاوز ” سعته 11 برميلاً, مهمته توزيع المياه إلى جميع الغرف.

بناء طيني قديم ذو طابقين محاط بعدة نوافذ كبيرة, أبت جدرانه المبنية من الِلبن – المصنوعة بمهارة ودقة تندر ملاحظتها في غيرها من البيوت الطينية آنذاك – على الزمن إلا أن تبقى صامدة شامخة في وجه عوامل الطبيعة والزمن, وأكثر ما يشدّ النظر في هذا البناء تصميمه المتقن وببراعة قلّ نظيرها في ذلك الوقت, فلم يكن من أشرف على بناءه بمهندس معماريّ متخصّص, إنما كان عاملاً عادياً جلّ همّه أن يحظى بمنزل يأوي عائلته.

يقول أبو يوسف وهو أحد أبناء إبراهيم حاج فتاح والملقب بـإبراهيم “الصراف” نسبة إلى مهنة الصرافة التي زاولها في ذلك الزمن وبقى ممارسا لها حتى آخر أيامه:

والدي كان وحيد والديه, وهو أرمني الأصل, من منطقة (قفلي) في باكور كردستان, كبر وترعرع في كنف عائلة الحاج فتاح, وأصبح أحد أفرادها وأسموه إبراهيم , لم يكن يعلم عن عائلته الحقيقية شيء وكل ما كان يعلمه هو أنه من ديار بكر, وبعد أن اشتدّ عوده أصبح هو يصرف على هذه العائلة, فقد كان نشيطا, كان الأول أثناء الحصاد في الصيف, عمل في ريعان شبابه في التهريب, كان يعمل صباحا في الحصاد وفي الليل يقوم بتهريب القصدير الى ماردين, تعب كثيرا في حياته, وعاش حوالي 105 سنوات. قال لنا ذات مرة أنه جُلب مع نساء وأطفال على ظهور الدواب ليجد نفسه وحيداً بعد أن اجتازوا الحدود التركية إلى مدينة عامودا خلال المذبحة  التي ارتكبتها الدولة العثمانية بحق الأرمن”.

ويتابع الابن:” كان والدي شخصاً نشيطاً عمل في الزراعة إلى أن استطاع جمع ثمن هذه الأرض حيث اشتراها من أحد أهالي عامودا واسمه “ظاهر بلقو” وبدأ في بناء البيت بمعاونة والدتي وجدتي,  كان يحفر الأرض لكي يصنع الِلبن. في البداية بنوا غرفة واحدة من ثم استكملوا بناء باقي الغرف, بعد ذلك وفي عام 1941م تحوّل والدي إلى العمل في مجال الصرافة, كانت هذه المهنة غير متداولة كثيراً في تلك الحقبة, وكان القليل يمارسونها في مدينة عامودا, وحركة التنقل بيننا وبين المدن التركية كانت نشطة, علماً أنه لم يكن يجيد القراءة والكتابة ولكنه كان يتقن عمليات الحساب, وقد قال لنا ذات مرة أنه ارتاد الكتاتيب لأسبوع فقط لأن والده وأخاه منعاه من استكمال تعليمه وأراده أن يعمل, وعمله إلى جانب الصرافة في التهريب من والى تركيا كان لتتحسن أحواله المادية كما أنه سافر في العام 1957 إلى مصر واشترى حوالي 200 كيلو من الكهرمان والعقيق, خزّنها في ستة براميل خشبية وكان يصدرها الى العراق”.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

وعن قصّة بناء هذا البيت وبهذا الطراز المعماري الفريد حينها يمضي أبو يوسف في الحديث:” قرّر والدي بعد مضيّ عدة سنوات بناء منزل آخر ولكن مساحة الأرض كانت ضيقة, لم تكن لتتسع لبناء جديد فشيّد فوق البيت الأول ليصبح بيتنا ذو طابقين, ولكنه تأخر في بنائه لأنه لم يكن هناك من يساعده سوى زوجته ووالدتها, كانت مساحة الغرفة التي شيّدها حوالي 7 امتار, وقد فتح فيها الكثير من الشبابيك, لتخفيف الثقل والضغط على الجدران, وأيضاً تحسباً لأي هجوم من قبل قطاع الطرق واللصوص, وكي تبقى أطراف المنزل على مرمى بصره, أي أن الغرفة كانت مثل المحرس تقريباً, حيث لم يكن والدي ينام كثيرا في الليل, لأنه كان محسوباً من ميسوري الحال آنذاك بحكم المهنة التي كان يمارسها ألا وهي الصرافة”.

ويشرح أبو يوسف حياة الماضي الجميل التي عاشها والده وهو يتجوّل في أرجاء المنزل حيث في كل زاوية قصّة وذكرى, يشير إلى الأعمدة الكثيرة الطويلة والمتراصّة ويقول” مع أن الوالد كان غير متعلماً, لكنه كان يجيد الحساب دون قلم ودفتر, وقد عمل على استبدال أعمدة سقف الطابق الأول بالاستعانة  بـ” نعمت دريعي” حيث كان يقوم بجلب عواميد بقطر 25سم وطول أكثر من 4 أمتار من تركيا, وساعده طولها على بناء شرفة للطابق الثاني, فرشها بالحجارة الصغيرة, ومن ثم بالإسمنت, أما حجم “اللبنة” التي اعتمدها في البناء فكانت بقياس 50×60سم,  وكما زوّد المنزل بسلم داخلي للصعود إلى الطابق الثاني المشيّد, وبنى خزان مياه من الاسمنت مثبت على أربعة أعمدة من الاسمنت على مبدأ “حاوز المياه ” وتعادل سعته 11 برميلاً, ويرتفع عن الأرض حوالي 5 أمتار مهمته توزيع المياه إلى جميع الغرف, حيث كانت كل غرفة مزودة بصنبور خاص. أما ملئ الخزان فكان يتمّ من خلال  بئر موجودة في المنزل نفسه, كما فرش أرضية الفناء ببلاط اسمنتي بحجم 60×20 سم وعلى شكل مستطيل, وكان الوالد يرشد “شمعون البنّاء” ويساعده, لأنه كان يتقن هذه المهنة أيضاً, لكنه لم يعمل فيها كثيراً, لأنه انتقل فيما إلى العمل في مجال الصرافة, ومازالت تلك القوالب التي كان يستخدمها في إعداد البلاط  موجودة في المنزل إلى اليوم “.

يتنهّد أبو يوسف وهو ينظر إلى العريشة  التي رافق بناءها بناء المنزل, ويقول:” لا زالت قائمة حتى اليوم, أقام والدي من أجلها 9 عواميد اسمنتية بمساعدة المعلم موسى, وذلك ليضع عليها تلك العريشة”.

ولا يخفي أبو يوسف أن الوالد بقي بصحّة جيّدة حتى آخر سنين عمره, وخاصة نظره الذي لم يضعف:” أتذكر عندما كان عمره حوالي “95” عاماً وأثناء جلوسنا في محل بيع تصليح وبيع أدوات الخياطة, استطاع والدي “إدخال الخيط في ثقب الابرة ” كان نظره قويا ولم يسقط له حتى وفاته سوى سنّ واحدة”.

تبقى لهذه البيوت الطينيّة القديمّة المميّزة جمالية خاصة تفوح منها عبق زمن مضى, تغوي النفس للجلوس فيها هانئة ببرودتها في حرّ الصيف, ومتنعمة بدفء جدرانها الطينيّة في فصل الشتاء, هذه الجدران التي تحمل بين ثناياها حكاية من شيّدها بمهارة فاقت في دقتها وتصميمها ذوي الاختصاص في فن العمارة.

نشرت المادّة في العدد (47) من صحيفة Buyerpress تاريخ 15/7/2016