يعجُّ المجتمع السوري اليوم بكمٍّ كبير من المشكلات الاجتماعية, البعض أوجدتها ظروف الأزمة, وأخرى زادتها تفشياً, لتكون المنطقة الكردية نموذجاً في طرحنا هذا, فقد أشارت إحصائيات حديثة غير رسمية إلى أن نسبة العنوسة في سوريا ارتفعت إلى 50% . بما يوحي أن مشكلة العنوسة قد تتحول إلى ظاهرة قد يصعب الوقوف عليها في قادم الأيام.
تحقيق: فنصة تمو
صحفية “Bûyerpress” كانت لها هذه الاضاءة على واقع المشكلة .
تقول ر. أ ابنة الـ 31 عاماً وهي مهندسة زراعية: لقد وصلت إلى مرحلة عمرية قلّ فيها عدد الذين كانوا يتقدمون لخطبتي, فحين كنت في الـ 21 كان الوضع أفضل, إلا أن تحصيلي الدراسي وتفكيري وثقافتي أثّرا على عملية اختياري, فقد تقدم لخطبتي الكثيرون، ولكن لم أكن أجد ما أرغبه فيمن تقدموا, إلى أنْ قررت الموافقة على شخص توفرت فيه كل الصفات التي كنت أريدها, ولكن قبل عرسي بأسبوع استشهد بقذيفة هاون نتيجة الظروف التي نعيشها اليوم, وهذه الحادثة أثرت في حالتي النفسية ورفضتُ كل من تقدم لي بعد تلك الحادثة.
وتابعت ر.أ: بالإضافة لما كان يحدثه لدي مصطلح “العنوسة” من ألم, كانت تؤلمني أكثر تلك المقولات التي كنت أسمعها بين الحين والآخر من أهلي وأصدقائي وأقربائي وهي” فلانة تزوجت ” و “فلانة أصبح لديها أطفالاً ” وأنت لم تتزوجي بعد. هذا الأمر انعكس عليّ سلباً, ومعاناتي كانت مضاعفة ربُّما لأنني نزحتُ من مدينتي نتيجة الظروف الحالية بالإضافة إلى الحالة النفسية التي أمرّ بها, ولكنني اليوم أتابع حياتي بشكل طبيعي وأحاول كسر كل الحواجز التي فُرضت عليّ فأنا لدي مهنتي وأمارس هواياتي في الكتابة والرسم ولن يقف مشكلة تأخّر الزواج في طريق تحقيق ذاتي.
أما ج . أ البالغة من العمر 35 عاماً تخرجت من المعهد المتوسط للأشعة الطبية, تقول في تأخر زواجها: إن السبب في البداية كانت رغبتي في إتمام دراستي ليكون بعد ذلك عدم موافقة أهلي على أنني لازالت صغيرة على الزواج, وأحياناً عدم توفر الشروط التي كانت تريدها عائلتي في الشخص المتقدم لخطبتي؛ كالوضع الماديّ, فكانوا يقولون أنني لا أستطيع العيش مع شخص دخله المادي متوسط أو دون المتوسط كوني الابنة الصغرى المدللة, لينتهي بي المطاف اليوم دون زواج.
تقول ج .أ في وصف بعض شعورها حين تجد الفتيات اللواتي يصغرنها سنّاً ممن تخالطهن في مجال عملها, متزوجات ويتحدّثن عن العنوسة أو حين يصدف سماعها لحديث بعضهن في حافلة الركاب عن أطفالهن: “تحرك هذه الأحاديث نوعاً من الألم بداخلي, لينتهي بي الحال أن أتسائل في نفسي لماذا أنا لست ككل الفتيات من جيلي!؟ بماذا يتميزن عني !؟.
“ل.ع ” لقصتها لون آخر, تحمل بين طياتها أحلامها الفتية المندثرة على ما يسمى بصخرة القضاء والقدر, تقول: لم أتم دراستي الثانوية بسبب مرض أختي الذي تسبب في حدوث إعاقة دائمة في قدميها, ثم مرضت والدتي, ولم يكن في البيت سواي ليعتني بهما, ليُثقل رحيل والدتي بعد ذلك من الحمل الملقى على عاتقي ويزيد من مسؤولياتي.
وهكذا مضى قطار العمر لتتذكر ل.ع أنها اليوم تبلغ اليوم من العمر 44عاماً, ولكنها مؤمنة بأن تأخر زواجها هو أمر مقدر من الله سبحانه وتعالى.
كيف يرى الأخصائيون في الشأن النفسي والاجتماعي مشكلة “العنوسة” كمصطلح وحقيقة قائمة اليوم.
في خوض دقيق وتفصيلي للأسباب والآثار التي قد تنتج عنها, نخلص في النهاية إلى الحلول التي يمكن طرحها في إطار هذه المشكلة ضمن مجتمعنا الكردي على وجه التحديد.
محمد علي عثمان -اخصائي نفسية:العنوسة ليست مصطلح علمي, بل هو مصطلح اجتماعي, ومتغير ونسبي يختلف من مجتمع إلى آخر, ولهذا نرى التباين في السنّ الذي يطلق فيه على الفتاة والشاب كلمة عانس, ويمكن اعتبارها حالة نفسية؛ بمعنى قد ترتبط بالفراغ العاطفي لدى الفتاة أو عدم مزاولتها العمل, وافتقادها لأي نوع من الطموح لتختزل كل ما ذكر بأنّها غير متزوجة إذاً فهي عانس, على خلاف تلك الفتاة التي بلغت الثلاثين أو أكثر وتكون محققة لذاتها ولطموحاتها, فهي بطبيعة الحال, لن تنظر إلى نفسها على أنها عانس, وهذا تأكيد لحقيقة أنّ هذه المشكلة ترتبط بالشخص ذاته وليس بعمر معين.
ويتابع علي: بالنسبة إلى المجتمع الكردي فيما يتعلق بمشكلة العنوسة, يختلف الأمر اليوم عما كان عليه قبل عشر سنوات, فالفتاة حين كانت تبلغ الخامسة والعشرين كان يقال عنها بأنّها “عانس” أما اليوم قد تبلغ الخامسة والثلاثين ولا ينظر إليها على أنها عانس نتيجة تغيّر ثقافة المجتمع وتطور حالة الوعي لدى الفرد, وكذلك موضوع التعليم أثر بدوره في تبدُّل هذه النظرة.
وعن التأثيرات النفسية لهذه المشكلة، أضاف عثمان : “استخدام هذا المصطلح فيه نوع من العنف, فالفتاة التي تعتبر نفسها عانساً سوف تتأثر به إلى حد كبير على خلاف الفتاة التي تملك من الثقة والقناعة ما يجعلها تدرك أنّ الموضوع هو مقدّر ونصيب أو ربّما ليس لديها الوقت للتفكر في موضوع الزواج, وبالتالي لن تتأثر على خلاف النموذج الذي ذُكر, والفتاة التي يكون مفهوم الذات لديها هابطا وتفكيرها سوداويا ومتشائما تتبدل حالتها النفسية إلى درجة كبيرة جداً بمجرد سماعها للمصطلح دون توجيهه إليها بالذات”.
كيف ينظر علم الاجتماع إلى هذه المشكلة؟
في نظرة علم الاجتماع إلى مشكلة “العنوسة” يقول المرشد الاجتماعي رافع إسماعيل: من وجهة نظر علم الاجتماع وعلم النفس الاجتماعي يمكن اعتبارها ظاهرة ومشكلة تهدد الأسرة بالدرجة الأولى, ثم تُلقي بظلال تأثيراتها السلبيّة على المجتمع والمحيط الاجتماعي.حيث تهدد الأسرة من خلال القلق المستمر والمتزايد على مستقبل ـ أفرادها ـ الذين تجاوزوا السن الطبيعي للزواج ـ حسب عُرف أهل البلد وحسب معتقده وطبيعة الأفكار التي يتبناه بخصوص السنّ المناسب للزواج وتؤثر على سلوك الشخص ذاته أيضاً.
الأسباب الأساسية لمشكلة “العنوسة” :
يقول الإخصائيّ رافع إسماعيل الأسباب: باعتقادي من العوامل الأكثر تأثيراً في زيادة هذه الظاهرة, في حال أخذنا سوريا نموذجا لدراسة الظاهرة والمنطقة الكردية على وجه الخصوص, يمكن تحديدها في الآتي:انخفاض مستوى الأمان- الغلاء المعيشي- تدني فرص العمل- تخبّط الفئة الشابة في حسم أمورها المستقبلية انطلاقاً من الأوضاع الضبابية التي تسود مستقبل البلد والمنطقة – نزيف الهجرة الذي حدث ولازال مستمراً إلى اللحظة – غياب الاستراتيجية الحزبية التي تهتم بالحياة الاجتماعية للمواطن بشكل عام والشباب بشكل خاص – حاولت جهات سياسية وحزبية أن تُركز في خطابها العقائدي على فئة الشباب فركزت جهدها على جعل الجانب العسكري الجانب الوحيد الذي يحظى بالاهتمام والدفع نحوهما جعل الكثير من الشباب يُلقي بفكرة الاستقرار والزواج جانباً, بمعنى أن معظم الأحزاب تنظر للشباب على اعتبار أنهم مجرد ذخيرة عسكرية فعملت على تحوير اهتماماتهم.
يرى اسماعيل بأنّ الحلول تكمن في معالجة الأسباب وذلك في:
– خلق فرص عمل جديدة واستثمارات تلائم إمكانيات وظروف الشباب.
– إحداث مراكز توعية ودعم اجتماعي للأسرة والشباب.
– توعية المجتمع والأهالي بخطورة الزواج المبكر وضرورة مراعاة ظروف الشباب المقبل على الزواج.
– ضرورة عمل هذه الجهات للحدّ من نزيف الهجرة بمعالجة أسبابها الرئيسية دون الاكتفاء بإلقاء الشعارات.
– أن تكف الجهات السياسية وغيرها من المؤسسات بالتركيز على حشد الشباب ودفعه باتجاه عسكرة الحياة واعتبارها الجانب الأسمى, فالحياة كُلٌ متكامل, وسلسلة متواصلة من الأبعاد والجوانب الاجتماعية والاقتصادية والثقافية.
بينما يقول عثمان الأخصائي النفسي في بعض الحلول الممكنة لمواجهة هذه المشكلة الاجتماعية:
المشكلة أنّ حلول الظواهر الاجتماعية ليست بتلك البساطة التي نعتقدها لارتباطها بثقافة المجتمع، فقد يأخذ الحلّ طابعاً توعوياً تثقيفياً بمعنى شرح مصطلح العنوسة لأفراد المجتمع لأنه إلى الآن لا يدرك الناس المعنى الحقيقي لهذه الظاهرة ولمثيلاتها ايضاً, لأن حقيقة هذه المشكلة ليست مرتبطة بالعمر, إنما مرتبطة بالحالة النفسية كما ذكرت بداية.
دور الأطر النسائية المعنيّة بالشأن المدنيّ فيما يتعلق بمشكلة “العنوسة”:
للوقف على ما ذكر تقول نارين متيني رئيس شبكة المرأة الديمقراطية:
أرى أنّ ” العنوسة ” مصطلح خاطئ بحكم ثقافة الشرق الأوسط, ثقافة الأنظمة المستبدة والعادات والتقاليد والقوانين الخاطئة. بمعنى سواد ثقافة سلبية في مجتمعنا, ودخول مصطلحات سلبيّة أيضا في قواميسنا الاجتماعيّة, وأريد القول لا وجود لهذا المصطلح لدينا نحن الكرد, ولا أعترف به حتماً, وأفضّل مصطلح العزوبية على مصطلح العنوسة.
متيني مضيفاً: 95% من نسب الزواج في مجتمعنا فاشلة بسبب الضغوطات والزواج في السن المبكرة؛ فقد ارتفعت نسبة الطلاق، لذلك ولمواجهة هذه المشكلة ينبغي تثقيف المرأة في كافة مجالات الحياة سواءً أكانت حقوقيّة أو اجتماعية أو سياسيّة أو ثقافيّة, فعندما تهيء نفسها في هذه المجالات تصبح حينها امرأة حرة قادرة على إثبات ذاتها.
وفي تقصير الجهات المعنية تتابع متيني: للأسف تنظيماتنا النسائية والمؤسسات التابعة للمجتمع المدني هي شكليّة – حزبية, لم يقدموا شيئاً واقعيا للمرأة, لأنهم لازالوا في قوقعتهم ومناورتهم بعضهم ضد بعض, والسبب لأنّ القائمين عليها ليسوا أصحاب إرادة حرة, وهذه المشكلة كانت بعيدة كل البعد عن اهتماماتهم.إلا أننا في شبكة المرأة الديمقراطيّة الحرة هدفنا هو تمكين المرأة في كافة المجالات الحقوقيّة والسياسيّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة، بالطبع ضمن مشروع “الجندر” وهو يقابل العنوسة؛ الجندر هو المساواة الحقيقي بين الرجل والمرأة من حيث التقدم والتغيُّر.
نخلص في النهاية إلى أن المشكلة موجودة وبحاجة إلى الرصد وطرح حلول ممكنة لها, والأهم تجاوز المعنى اللفظي لمصطلح العنوسة لما فيه نوع من العنف المُمارَس على الأنثى في خطوة جريئة وجدية, ليحضرنا هنا الواجب الملقى على عاتق الجهات ذات الاهتمام من تنظيمات نسائيّة ومعنية بالشأن المدني, وانتهاءً بالقائمين – رسيّما اليوم- على مركز القرار, فأضعف الإيمان أن تجد منها الإيفاء ولو بجزء يسير من مسؤولياتها حيّال ما يفرزه المجتمع من مشكلات وظواهر اجتماعية.
نشر التحقيق في النسخة الورقية من صحيفة “Buyerpress” العدد (41) بتاريخ 15/4/2016