أظهرت دراسة أمريكية واسعة النطاق أن “التعارض” بين الدين والعلم قد يكون مصدره تركيبة الدماغ. نتائج قد تؤجج النقاش الفلسفي القائم منذ مئات السنين بين المُعتقدات الدينية والتأكيدات العلمية. لكن أصحاب الدراسة لا يرون صراعا بين المجالين.
تاريخ الإنسان مليء بالقصص التي تروي الصعاب التي واجهها العلماء والباحثون عندما اكتشفوا أموراً تبدو متناقضة مع المعتقدات الدينية. ولعل الجدل الذي خلقته اكتشافات غاليلي الفلكية وحرب الكنيسة الكاثوليكية على نظرياته من أشهر تلك القصص، دون ذكر المعارضة الشديدة لدى العديد من الفقهاء المسلمين لأفكار ابن رشد بشأن الحقائق العلمية. وإلى اليوم، الصراع كبير بشأن نظرية “التطور” بين جُل العلماء عبر العالم من جهة والمدافعين عن ما يعرف ب “الخلقية أو الخلق” من جهة أخرى.
بعيداً عن الجدل الفلسفي، حاول باحثون في جامعة “Case Western Reserve” وجامعة “Babson College” الأمريكيتين رؤية ما يحدث داخل دماغ الإنسان حين يتم طرح مسائل إشكالية تدخل فيها اعتبارات دينية وعلمية.
وأظهرت النتائج أن الذين يفكرون بطريقة تحليلية ونقدية يميلون إلى كبح منطقة الدماغ المسؤولة عن العاطفة والمشاعر، بينما يميل الروحانيون والذين يؤمنون بوجود الإله إلى تغييب منطقة الدماغ المسؤولة عن التفكير التحليلي. ما قد يفسر تعصب هذا الطرف أو ذاك.
قبل الوصول إلى هذه النتائج التي نشرت في مجلة PLOS ONE العلمية، قام الباحثون بإنجاز 8 تجارب شملت كل واحدة منها ما بين 129 إلى 527 شخصا.
المؤمنون ناقصو عقل والملحدون ناقصو مشاعر؟
لابتكار تجاربهم، اعتمد الباحثون على دراسات سابقة باستخدام التصوير بالرنين المغناطيسي (MRI) أظهرت أن دماغ الإنسان يحتوي على شبكتين مختلفتين من الخلايا العصبية : شبكة أولى توصف بـ “الشبكة التحليلية” وتسمح بالتفكير بطريقة ناقدة ومُسائلة وشبكة ثانية من الخلايا العصبية توصف بـ “الشبكة الاجتماعية” وتسمح لنا بالتعاطف واستعمال المشاعر.
ويقول البروفيسور ريتشارد بوياتزيس من جامعة Case Western Reserve والذي شارك في البحث: “أظهرت مجموعة من الدراسات في علم النفس المعرفي أن الناس المؤمنين (المُتدينين أو الروحانيين) هم ليسوا أذكياء بشكل كاف. تلك الدراسات تزعم أنهم أقل ذكاء من الآخرين”. ويضيف ريتشارد بوياتزيس : “أكدت بحوثنا تلك العلاقة الحسابية. لكن في الوقت نفسه، أظهرنا أن الذين لديهم إيمان هم أكثر ذكاء اجتماعياً وأكثر تحلّياً بما يعرف بالتقمص العاطفي”.
ما يعني أن تجارب فريق البحث بيّنت أنه كلما كان الشخص حنّانا ومتعاطفا أكثر، كلما كان على الأرجح متدينا بشكل كبير. بينما الملحدون هم أكثر قربا من ذوي الاضطرابات النفسية الذي يعانون من نقص في التعاطف والذين لا يأخذون بقدر كاف مشاعر الآخرين بعين الاعتبار، حسب محرري الدراسة.
ويرتبط ذلك بتركيبة الدماغ واحتوائه على الشبكتين التحليلية والاجتماعية من الخلايا العصبية. لكن، ما علاقة ذلك بالتناقض الفكري بين الدين والعلم؟
“كل شبكة من الخلايا العصبية تُحيّد الشبكة الأخرى. يمكن أن يخلق ذلك طرفيْن متشدديْن (فيما يخص المدافعين عن الدين وعن العلم)” يقول ريتشارد بوياتزيس. “لكن قبول فكرة أن الدماغ يعمل بهذه الطريقة قد يجعلنا أكثر توازنا وعقلانية خلال النقاشات بشأن الدين والعلم”.
نظريا، لا “تناقض” بين الدين والعلم
فالباحثون يشددون على أن دماغ الإنسان قادر على التفكير باستعمال الشبكتين معا. “ليس هناك صراع دائم مع العلم. ففي الظروف المثالية، يمكن للمعتقدات الدينية أن تؤثر بشكل إيجابي على الإبداع العلمي وبصيرة العلماء”، يقول توني جاك، أستاذ الفلسفة في جامعة Case Western Reserve ومدير فريق البحث. ويضيف جاك : “الكثير من أكبر وأشهر العلماء كانوا متدينين أو روحانيين. هؤلاء لاحظوا أن فكر الإنسان متطور بشكل كاف ليروا أنه لا حاجة لأن يصل الدين والعلم إلى درجة الصراع”.
صراعٌ يمكن تجنبه حسب الباحثين باحترام قاعدة بسيطة : “لا يجب للدين أن يحاول شرح الأسس الفيزيائية للكون. إنه مجال يخص العلم. من جانب آخر، يجب على العلم أن يستنجد بذكائنا الأخلاقي. لا يمكن للعلم أن يحدد ما هو أخلاقي، أو أن يقول لنا كيف علينا أن نحدد معنى وهدفا لحياتنا” يقول توني جاك.