تغيّر نمط العيش في المجتمعات العربية لأسباب وعوامل عديدة أهمها الانفتاح على المجتمعات الغربية وتزايد الوعي بأهمية التعليم والصحة والعمل خاصة بالنسبة للمرأة وذلك مواكبة لتغير السياقات الاجتماعية والاقتصادية التي أدت إلى تطور النظرة للأسرة وللحياة الزوجية، وأيضا للزوجة التي تجاوزت حصر دورها في الإنجاب والأمومة لتصبح الشريكة في الحياة وفي القرارات المصيرية للأسرة والأبناء. هذه التطورات التي فرضها أسلوب الحياة العصري سريع الوتيرة دفعت الشريكين إلى التفكير بعد الزواج مباشرة في كيفية بناء أسرة متوازنة عبر تحديد عدد الأبناء المرغوب فيهم مسبقا حفاظا على مستوى مرضي من المعيشة وعلى صحة الأم التي تستنزف كثرة الولادات قواها الجسدية والنفسية.
ولم تكن المرأة بمعزل عن تطور النظرة للأسرة بل كانت أكبر المستفيدين منها وكانت محركا أساسيا في اتجاه التخلي عن فكرة كثرة الأبناء التي ارتبطت بمعتقدات وموروث اجتماعي يقوم على الافتخار بالإنجاب خاصة في المجتمعات الريفية التي تعتمد على النشاط الفلاحي كمورد رزق فتنجب الزوجة عددا يصل أحيانا إلى عشرة أبناء للاستعانة بهم في العمل. هذه التقاليد جعلت المجتمعات العربية تعجّ بالعائلات كثيرة الأفراد وكانت آثارها الأكثر ضررا تلحق بالزوجة حيث ترهق بدنيا وصحيا ونفسيا من الحمل إلى الولادة إلى تربية الأبناء والسهر على راحتهم وراحة الزوج.
أما المعاناة من الصعوبات المادية فلم تكن تخص الأم وحدها لأن الأسرة الكبيرة تعني بالضرورة تكاليف أكثر للتربية والعناية بالأبناء وتغطية حاجياتهم الأولية وهو ما جعل الآباء غير قادرين على توفير مستوى معيشي معقول حيث يمكن أن يجد الأبناء أنفسهم مجبرين على العمل في سن مبكرة ويحرمون من التعليم ومن عيش طفولة طبيعية يتوفر فيها الحد الأدنى من الاهتمام والرعاية فتفقد الأسرة توازنها بين حرمان الأبناء ولهث الآباء وراء توفير ضروريات الحياة وتكون النتيجة جيلا غير متوازن نفسيا.
من هنا بدأت فكرة الحد من الولادات تجد طريقها للأذهان وتلقى وجاهتها وأهميتها في الوعي المجتمعي والوعي النسائي بدرجة أولى فدخلت وسائل التنظيم العائلي المستعملة لدى بعض مجتمعات الدول الغربية مثل حبوب منع الحمل إلى المجتمعات العربية. ورغم أن هذه الحبوب استخدمت قبل سنوات في الدول المتقدمة إلا أن قبولها واستخدامها لدى النساء العربيات رافقه في البداية جدل اجتماعي ورفض بتعلات دينية مقتضاها أن حبوب منع الحمل وكل وسائل تحديد النسل تضمر اعتراضا على أحكام الله وتدخل في مشيئته، لكن هذه الاعتراضات سرعان ما تلاشت بفضل التطور الثقافي والعلمي.
وإلى اليوم لا تزال حبوب منع الحمل تتأرجح بين مؤيدين يقولون إنها تساهم في الحد من الأعباء الأسرية على الأزواج وإنها من بين ضمانات حسن تربية الأبناء والاهتمام بهم وبالتالي هي من بين وسائل بناء مجتمع سليم متوازن نفسيا وأخلاقيا، ومن جانب آخر غيرت الحبة النظرة التي تعتبر المرأة آلة إنجاب كما غيرت اعتبار المرأة لنفسها وتعاملها مع جسدها وصحتها فأصبحت حريصة على عدم استنزاف قواها البدنية والعقلية والنفسية بكثرة الولادات. كما اهتمت بأناقتها وبجمالها وبمظهرها وبراحتها بطريقة توفر بها لنفسها الوقت للتعلم والعمل خارج المنزل وتحقيق الذات والطموحات المهنية والمادية.
أما معارضو استعمال حبوب منع الحمل فيكونون إما من حاملي الفكر الديني المتشدد الذين يرفضون حق المرأة في اختيار وتقرير مصيرها وأسلوب عيشها ويؤمنون بأن تناولها يعارض الطبيعة ومشيئة الخالق في خلقه وينظرون لها على أنها تشجع المراهقات وغير المتزوجات على القيام بعلاقات جنسية خارج إطار الزواج بما أنها تخول لهن حماية أنفسهن من التورط في إنجاب أبناء غير شرعيين.
كما يجد معارضو حبوب منع الحمل ضالتهم وسندهم في ما كشفته العديد من الدراسات الطبية حول تأثيراتها الجانبية على صحة المرأة في حين تؤكد دراسات أخرى أن فوائدها على المرأة أكثر بكثير من تأثيرات عرضية وعابرة، جدير بالذكر أن واحدة من كل أربع نساء في عمر يتراوح بين 16 و49 عاما يرين أن الحبوب أفضل وسائل منع الحمل وذلك منذ انطلاق استخدامها في الولايات المتحدة كأول دولة تتيحها للنساء عام 1960.
وكان عالم البيولوجيا الأميركي جريجوري بينكس قد طور الحبوب لتعمل على منع التبويض وتمت تجربتها للمرة الأولى في الخمسينات على سيدات من بورتو ريكو وهايتي، واحتوت على هرموني الأستروجين والبروجستين اللذين تم تصنيعهما لمحاكاة تأثير الهرمونات الطبيعية في الجسد ثم خضعت هذه الحبوب لتحديث على مدار السنين، لكنها كانت سببا في بعض الأعراض المرضية في بعض مراحلها.
الثابت أنه منذ ظهور حبوب منع الحمل وبحسب طارق بالحاج محمد الباحث التونسي في علم الاجتماع فإن تغير وضع المرأة في المجتمع وتغير النظرة إلى الزواج أثر على نظرة المرأة إلى أدوارها ووظائفها وجسدها بما في ذلك وظيفة الإنجاب والحياة الجنسية. فبحكم التحديث والحراك الاجتماعي والاقتصادي والثقافي الذي كان نتيجة تعميم التعليم ونشره وبعد أن أصبحت حياتنا أكثر تعقيدا وضغطا وصعوبة، تغيرت أولوياتنا وقيمنا ونظرتنا لأنفسنا وللحياة وللزواج وللإنجاب. وبمرور الزمن تراجع زواج القرابة وحل محله الزواج المختلط وتغيرت النظرة إلى الزواج من كونه مشروعا للحياة إلى مجرد محطة في الحياة وتحولنا من مفهوم الزواج كرابطة إلى الزواج كمؤسسة وعقد قانوني.
وضعية غابت فيها الفلسفة التقليدية لبناء أسرة وحضر فيها نوع آخر من الرؤى المتعلقة بالجسد والإنجاب والاستثمار، ففي ما مضى كان ارتفاع عدد الأبناء عنوان للفخر والعزة أما اليوم فيعتبر عنوانا للتخلف والفقر الاقتصادي والثقافي، ولم يعد الاستثمار في عدد الأبناء أولوية بل حل محله حسن التربية والعناية والرعاية لعدد محدود من الأبناء وهذا ما يفسر إقبال نسائنا على شتى أنواع وسائل منع الحمل بما في ذلك الحبوب نظرا لما فيها من مزايا يمكن أن تحرر المرأة من بعض القيود السابقة منها:
أولا، إن استعمال حبوب منع الحمل هو فصل عملي بين الوظيفة الإنجابية للمرأة وحياتها الجنسية، إذ يمكنها من عيش حياة جنسية عادية دون الخوف من احتمال الحمل غير المرغوب فيه. كما تستجيب هذه العملية للنظرة الجديدة للمرأة العصرية إلى نفسها وجسدها حيث تحتل الرشاقة والمظهر عندها أمورا مركزية وبالتالي فإن ذلك يؤمن لها فرصة للعناية بجمالها وجسدها تماشيا مع ثقافة جودة الحياة التي ما فتئت تتوسع يوما بعد آخر.
ثانيا، استعمال حبوب منع الحمل يجعل من قضية الإنجاب ليس قضية صدفة أو عملية تلقائية بل عملية عقلانية منظمة مسبقا مما يساهم في تنظيم عدد الولادات وتباعدها ويتيح فرصا أكبر للمرأة للعناية أكثر بأبنائها بعيدا عن منطق الاستنزاف الذي ينتج عن تقارب الولادات وتتاليها فالابن في العصر الحديث يتطلب استثمارات عديدة منها ما يتعلق بالجهد المبذول ومنها ما يتعلق بالبعد النفسي والمالي والثقافي.
ثالثا، مع انتشار نمط الحياة العصرية والحديثة تغيرت الأولويات عند المرأة فلم يعد الإنجاب هو الوسيلة الوحيدة لتحقيق الذات بل الشهادة العلمية والعمل حيث يسود اتجاهٌ متزايدٌ في مجتمعاتنا يقوم على اعتبار العمل هو الوسيلة الأهم لتحقيق الذات مما جعل من الزواج والإنجاب في ذهن جل النساء والفتيات ليس رهان حياة.
حسب هذه المواقف والاتجاهات توفر حبوب منع الحمل ميزة تفاضلية للزوجات حيث تمكنهن في نفس الوقت من أدوار الأمومة والزواج دون أن تعيقهن على تحقيق طموحاتهن الاقتصادية والدراسية والاجتماعية.
عن العرب اللندنيّة