لم يكن المفكرون وحتى الفقهاء العرب معقدين من مسألة الجنس والجنسانية بل كانوا يتحدثون ويكتبون في الموضوع من دون أي حرج. كان موقف القدامى حراً ومنفتحاً تجاه مختلف العلاقات الجنسية مقارنةً بما يحدث اليوم. فلماذا وكيف انتقلت المجتمعات العربية من الجهر بالمتعة إلى حياة السرية والمنع؟ ما سبب هذا التراجع؟ في هذا الاستطلاع مع عدد من الباحثين العرب بعض عناصر إجابة.
سعيد ناشيد (باحث مغربي)
كل موقف من المرأة هو بمثابة موقف من الجسد والحب والجنس واللذة والمتعة بل الحياة. في النص الديني الإسلامي الرسمي (أي المصحف والأصحاح)، لم يكن النكاح مبخوساً، بل خلاف ذلك كان يحظى بنوع من التمجيد الذي قد يبلغ أحيانا حد الاحتفاء به (انكحوا ما طاب لكم)، بل يبقى النكاح ضمن أهم معطيات السعادة الأخروية (حور عين). ما يجعل الجنس أبعد ما يكون عن مفاهيم الخطيئة والإثم. المتعة هنا يغلب عليها الطابع الذكوري، وهذا تبعا لمجتمعات القدامة. لكن الوجه الآخر للموضوع أن إمكان المصالحة مع مبدأ المتعة يظل وارداً. غير أن الذي سيفعله الفقهاء هو أنهم بدل تطوير مفهوم المتعة واستيعابه فقهيا، أجهضوا تلك المصالحة وتصوروا أن المتعة لأجل المتعة مجرد فسق وفساد. اي أن المتعة لا تجوز إلا إذا كانت وسيلة لغاية “أسمى” هي الإنجاب والتكاثر. بهذا النحو ستبدو المتعة الجنسية كأنها مجرد “شر لا بد منه”. فعلاً هناك فقهاء ابدعوا في أدبيات الحب الجنسي، غير أنهم قلة قليلة، وكانت أدبياتهم تلك على هامش إنتاجهم الفقهي. مثلا، لا يندرج “طوق الحمامة” ضمن التراث الفقهي على رغم أن مؤلفه ابن حزم هو أحد أشهر فقهاء الأندلس، وإنما يندرج ضمن الإنتاج الأدبي. بمعنى أن المكبوت فقهيا يتم تفريغه أحيانا في مستوى الهامش الأدبي. عموما لا يقع التناقض الأساسي في التراث العربي الإسلامي في مستوى العلاقة بين الفقه والفلسفة كما هو رائج، وإنما في مستوى العلاقة بين الفقه والأدب. إن التناقض الصارخ هو بين الفقه والأدب، بين فتاوى ابن حنبل وابن تيمية التي تحرم الحب والعشق وتجرم الشهوة من جهة، وبين غزاليات قيس بن الملوح وعمر بن أبي ربيعة وابن زيدون، وفخريات المتنبي، ولزوميات المعري، ورباعيات الخيام، وخمريات ابن الفارض، من جهة ثانية. التناقض الأساس هو بين فقه يهمش المرأة كذات ويجعلها مجرد موضوع لمتعة الرجل، وماكينة للإنجاب، وصولا إلى اعتبارها حطب النار، وحبائل الشيطان، وأنها تقطع الصلاة مثل الكلب. إلخ، وبين أدب عربي جعل المرأة ليست مجرد موضوع لرغبة الرجل وإنما هي صاحبة الرغبة، بل هي الذات الأصلية أحيانا مقابل ذات الشاعر. التناقض الأساس هو بين فقه يمنح الرجل حق العيش مع أربع نساء، وشعر عربي كان ولا يزال غير معترف إلا بالحب بين إثنين لا ثالث لهما. في المستوى العيني انتصر الفقه الذي ينبذ الذات ويهمش المرأة ويقصي غرائز الحب والحياة.
إسماعيل مهنانة (باحث جزائري)
“تاريخ الجنسانية في العالم الإسلامي” هو المبحث المهم الذي لم يفتحه الفلاسفة العرب والمسلمون إلى الآن؛ ذلك أن تاريخ الممارسات الجنسانية في الإسلام سيكشف لنا الكثير من جوانب رؤية العالم التي تشكّلت إبّان هذا التاريخ. المؤكّد أن الإسلام بعد ظهوره سرعان ما انقسم مذاهب وشيعاً وطوائف بسبب انتشاره السريع داخل ثقافات متعارضة ومتصارعة. تالياً، ستأتي الحياة الجنسية في تعالقها مع الدين الجديد هي الأخرى مطبوعة بهذه الاختلافات. فالفقه السنّي مثلا الذي نشأ في بيئة بدوية في صحراء شبه الجزيرة العربية، سيكون فقها زهديّا متزمتا عكس الفقه الشيعي والفقه الموالي لبعض الطوائف الخوارجية الذي سينشأ في حواضر العراق والشام وبلاد فارس، وسيكون فقها أكثر انفتاحا إلى درجة الإيروسية. الأدب الإيروسي أيضا نشأ بقوة وجرأة منقطعة النظير في هذه الحواضر. تعداد أسماء التوحيدي، والجاحظ وابن مسكويه وأخرى كثيرة لا يغطّي كل جوانب هذا الغرض الأدبي. المؤكّد إذاً أن مسألة الجنس لم تكن تابو في الثقافة العربية الكلاسيكية، لكن التابو والعقد النفسية نشأا في عصر الانحطاط بعد القرن 15 خصوصاً، ثمّ كرّسته ثقافة الزوايا والتكايا التي انتشرت في الحقبة العثمانية ورسّخه أكثر انتشار الوهابية في القرن الـ 20، بشكل هوسي وعصابي.
عبد الرزاق بوكبة (شاعر وروائي من الجزائر)
عاد جدي من فرنسا بداية الثمانينات، ومن جملة ما أحضر معه صورة كبيرة يظهر فيها آدم وحواء لا يستر “عورتيهما” إلا توت خفيف، وعلّق الصورة في بيت الضيوف، ولا أذكر أن أحداً استهجن الأمر، أو علّق عليه، وقد رأيت الصورة نفسها في أكثر من بيت في القرية. في تسعينات القرن العشرين، دخلت البيتَ شرذمة من الإسلاميين المسلحين، وكان أول شيء فعلته أن نزعت الصورة، وداستها بالأرجل، بحجة أنها حرام. التحقت بجامعة سطيف عام 1996، وواجهت تمثال عين الفوارة للمرة الأولى، امرأة جميلة عارية، ويكاد ثدياها أن يصرخا من الإتقان، كان قد مرّ على تنصيبه أكثر من تسعين عاماً، وقد تحول إلى ما يشبه ضريح ولي صالح. بعد عام من ذلك فجره الإرهابيون بحجة أنه حرام أيضاً. قرأتُ في العام الماضي كتاب “قطب السرور في أوصاف الأنبذة والخمور” للفقيه الرقيق القيرواني، وقد أورد في المقدمة أنه تناول الأمر من باب كونه موضوعة ثقافية، فأين نحن من ذلك؟ الفكر الوهابي أبشع ما ابتلي به المسلمون منذ تشكلهم ككيان حضاري.
رندا قسيس (عالمة انتروبولوجيا من سوريا)
نلاحظ أن الديانات الابرهيمية جميعها وبنسب متفاوتة قالت بوجود الخطيئة الأولى المرتكزة على العملية الجنسية المحرمة والواضحة معالمها في كثير من الأديان والأساطير، فكانت نتيجة هذه العملية شعور ادم وحواء بالعراء، أي أن أكل التفاحة التي زودتهما معرفة الخير والشر ترمز إلى الشعور بالفعل الجنسي المحرم. انفتحت اعينهما وعلما انهما عريانان فخاطا اوراق تين وصنعا لانفسهما مآزر (تكوين.3: 7). بعد عملية الطرد من جنة عدن وفق الأسطورة الدينية، أنجب آدم وحواء ابنهما الأول قايين أول طفل مولود من الجنس البشرين ليتم بذلك تناقل الخطيئة الأولى من خلال التكاثر. من هنا نستطيع القول إن الأديان الابرهيمية تأسست على جمع فعلين هما الجنس والخطيئة (لا شك أن هذا المبدأ تم توارثه من أديان وأنظمة طوطمية سابقة)، وكما نعلم أيضا تلعب الذاكرة دورا مهما في تناقل الموروث الثقافي عبر الأجيال. لذلك نجد أن الذاكرة الجماعية قامت بعملية تصنيف هذا العمل، أي الجنس، مع ما رافقه من نتائج الخطيئة، لتأخذ الخطيئة حيزا مهما في الجانب النفسي، وتستولي عليها مشاعر الخشية وتأنيب الضمير في كل مرة يمارسها الفرد. نجد في سورة طه الآية 117 كيف رافقت مشاعر الشقاء ممارسة العملية الجنسية المحرمة “يا آدم إن هذا عدو لك ولزوجك فلا يخرجنكما من الجنة فتشقى. إن لك ألا تجوع فيها ولا تعرى. وأنك لا تظمأ فيها ولا تضحى”، أو “فاخرج منها فإنك رجيم وإن عليك لعنتي إلى يوم الدين”. نعلم أيضاً أن كل موروث ثقافي يحتاج إلى أجيال كي يترسخ كركيزة أساسية لأي جماعة. فإذا ألقينا الضوء على الديانة المسيحية، لاحظنا أنه في عهد البابا الأول في القرن الأول كان للمرأة صلاحية في رئاسة الموائد الاخارستية التي تعني باليهودية “تودا” وهي صلاة الشكر، مما يدل على تراجع مكانة المرأة تدريجياً. بينما نجد أن منع رجال الدين من ممارسة الجنس اتى في أوقات لاحقة. ففي القرن الرابع وفي عام 306 بالتحديد، منعت ممارسة الجنس عند رجال الكنيسة في اليوم الذي يسبق يوم القداس كما يُعرض من لا يلتزم هذا الشيء بالفصل من منصبه عبر مرسوم في مجلس “الفير” في اسبانيا. بعد سنوات وفي عام 325، منع الزواج بعد عملية التنصيب لرجل الدين، ليصدر في ما بعد، في عام 590، مرسوم للبابا غريغوار الكبير يمنع فيه الممارسة الجنسية ويحرم الرغبة الجنسية. من هنا نلاحظ أن تحريم العملية الجنسية جاء تدريجياً في الدين المسيحي الكاثوليكي. أعطيت هذا المثال لتوضيح عملية المنع التي تمت لاحقاً في المجتمعات والأديان الأخرى. وكما وضح لنا علم النفس التحليلي، يعدّ استبدال المشاعر بمضادها عملية ضرورية لإلغاء المشاعر الأولى وتحتاج إلى أجيال متعددة.
سعيد هادف (باحث جزائري)
قدماء المفكرين وحتى الفقهاء العرب لم يكونوا معقدين من مسألة الجنس والإيروتيك، حيث وصلتنا كتاباتهم حول الموضوع، شعرا وسردا، وهناك من ألف كتبا تناولت موضوعة الجنس والأوضاع الجنسية ولعل “الروض العاطر” أكثر هذه المؤلفات شهرة إلى جانب “نواضر الأيك” المنسوب للسيوطي. لم يقتصر التراجع على ثقافتنا الجنسية، بل طال أغلب المجالات الحميمة، وانكمشت الحياة ولم يعد في حقل التداول سوى معيش يكاد يخلو من خصوبة الحياة، حيث المآسي والحروب والمخاوف هي الإيقاع المهيمن.
حميد زنار
النهار اللبنانية
الصورة:لوحة لأنغر