العدالة الانتقالية
المحامي رضوان سيدو
بعد اندلاع الثورات الشعبية /ثورات الحرية والكرامة/ في المنطقة العربية – في وجه حكامها المستبدين- التي أطاحت بالدكتاتوريات واستمرار الأزمة السورية وتعقدها يوماً بعد يوم وحصول انتهاكات جسيمة بحق الشعب السوري, وفقدان الثورة سلميتها وتحولها إلى ثورة مسلحة احتدم الصراع العنيف بداية بين الجماعات المسلحة التي دافعت عن الشعب الأعزل والنظام الدكتاتوري, مما أدى إلى ارتكاب أبشع الجرائم بحق الإنسانية من قبل النظام وحدوث الانتهاكات من قبل بعض الجماعات المسلحة, وكل ذلك كان له دوراً سلبياً في تفتيت المجتمع وإثارة النعرات الطائفية والعرقية في المجتمع السوري, فلا بد في المستقبل الاحتكام إلى العدالة الانتقالية, هذا المصطلح أو المفهوم بحاجة إلى بيان ماهيتها وأهميتها /كونها مصطلح حديث في مجتمعنا كحداثة الثورات في المنطقة /.
هذا وعند انتهاء الصراع المسلح وانهيار الدولة الشمولية وفقدانها لهيبتها وغياب سيادة القانون, يتولد عنف آخر وهو الانتقام من قبل الضحايا والدفاع العنيف من قبل الجناة. هنا, وقبل البحث في مفهوم العدالة لا بد من توضيح اختلافها عن العدالة التقليدية في كونها تعنى بالفترات الانتقالية مثل الانتقال من حالة نزاع داخلي مسلح إلى حالة السلم, أو الانتقال من حكم سياسي تسلطي إلى حالة الحكم الديمقراطي, أو التحرر من احتلال أجنبي باستعادة تأسيس حكم محلي.
تم إقرار مبدأ العدالة الانتقالية في كثير من دول العالم منذ سبعينيات القرن العشرين مثل/رومانيا- بلغاريا- تشيك- مغرب- جزائر/ ومؤخراً تم محاولة تطبيقها في تونس ومصر وليبيا واليمن وباءت بالفشل في أغلبها لأسباب تعود إلى كل دولة على حدى.
وقد عرّفت الأمم المتحدة العدالة الانتقالية بأنها /كامل نطاق العمليات والآليات المرتبطة بالمحاولات التي يبذلها المجتمع لتفهم تركة من تجاوزات الماضي الواسعة بغية كفالة المساءلة وإقامة العدالة وتحقيق المصالحة أي أنها منظومة من القرارات التي يتخذها المجتمع والدولة استجابة لانتهاكات حقوق الإنسان المنهجية والواسعة النطاق, بهدف تحقيق الاعتراف الواجب بما تكبدته الضحايا من انتهاكات ومحاسبة مرتكبيها /.
طبيعة الآليات /القضائية وغير القضائية/ والعمليات المرتبطة بتحقيق العدالة الانتقالية :
1- تقصي الحقائق: عن طريق تشكيل لجنة مستقلة تتقصى حقائق جرائم الماضي وكيفية ارتكابها والمسؤول عنها, وتحديد ضحاياها.
2- محاكمات الأفراد والمسؤولين عن جرائم الماضي: سواءً على انتهاك حقوق الإنسان أو جرائم اقتصادية متعلقة بقضايا الفساد واستغلال النفوذ والرشوة.
3- التعويضات: وتشمل الضحايا وأسرهم عن الضرر الذي أصابهم من جراء انتهاكات الماضي.
4- الإصلاح التشريعي والدستوري: ويتضمن التخلص من ترسانة قوانين الماضي التي شرعت من أجل هيمنة النظام السابق على مقدرات الحياة السياسية وكرست لمبدأ إفلات الجناة من الموظفين العموميين من العقاب. كما يتضمن سن قوانين ودستور جديد يتوافق مع الانتقال إلى الديمقراطية.
5- فحص السجلات: وذلك بمراجعة الملفات الشخصية للموظفين العموميين وأفراد الأمن للكشف عن تجاوزاتهم وجرائمهم والفصل فيها بهدف إصلاح حقيقي للنظام الأمني والقضائي بجانب الإصلاح المؤسسي.
6- تغيير المناهج التعليمية: لتكون قائمة على ترسيخ قيم الحرية والديمقراطية والتسامح وحقوق الإنسان وتنقيح المناهج القديمة مما قد شابها من تشويه وذلك عن طريق لجنة مختصة مستقلة.
7- تخليد ذكرى الضحايا: وذلك بإنشاء نصب تذكارية ومتاحف وتخصيص يوم وطني للحداد.
استراتيجيات وعناصر سياسية شاملة للعدالة الانتقالية :
ولتحقيق أهداف العدالة الانتقالية لا بد من اتباع العديد من الاستراتيجيات بعضها ذي صفة قضائية وبعضها
لا يحمل هذه الصفة وهي:
1- الدعاوي الجنائية /الملاحقات القضائية /: وتشمل تحقيقات قضائية مع المسؤولين عن ارتكاب انتهاكات حقوق الإنسان سواء تم ذلك أمام محاكم وطنية / داخلية / أو دولية أو مختلطة.
2- برامج التعويض أو جبر الضرر: وهذه المبادرات تدعمها الدولة وتعترف الحكومات عبرها بالأضرار المتكبدة وتتخذ خطوات لمعالجتها, وغالباً ما تتضمن هذه المبادرات عناصر مادية / كالمدفوعات النقدية أو الخدمات الصحية / فضلا عن نواح رمزية /عناصر معنوية / كالاعتذارات الرسمية والعلنية – إحياء يوم الذكرى.
3- إصلاح المؤسسات: وتشمل مؤسسات الدولة القمعية على غرار القوى المسلحة, والشرطة والمحاكم, بغية تفكيك – بالوسائل المناسبة – آلية الانتهاكات البنيوية وتفادي تكرار الانتهاكات الخطيرة لحقوق الإنسان والإفلات من العقاب.
4- لجان الحقيقة: وهي هيئات غير قضائية تجري تحقيقات بشأن الانتهاكات التي وقعت في الماضي القريب, وإصدار تقارير وتوصيات بشأن سبل معالجة الانتهاكات والترويج للمصالحة, وتعويض الضحايا وإحياء ذكراهم, وتقديم مقترحات لمنع تكرار الانتهاكات مستقبلاً.
كيف يمكن تحقيق العدالة الانتقالية وماهي متطلباتها:
1- الإرادة السياسية: فهي المحرك الأساسي لمنظومة العدالة الانتقالية وإن توافرت كل السبل التقنية اللازمة لتحقيق تلك المنظومة, فإن لم تتوفر الإرادة السياسية لن يتم تفعيل القوانين والقرارات الجديدة أو سيتم استخدامها لكبح جماح المعارضة السياسية, مما يعني إعادة إنتاج النظام السابق.
2- سيادة القانون: وتوخي الحذر عند إقرار قوانين خاصة بمعاقبة النظام السابق حتى لا يتسنى ذلك في زيادة قوة ترسانة القوانين الاستبدادية المعرقلة للحياة الديمقراطية, وذلك عن طريق البعد عن القوانين الاستثنائية التي تخل بمعايير العدالة الجنائية, ولا تحقق قيام محاكمات عادلة ومنصفة. فالغرض من تطبيق منهج العدالة الانتقالية ليس الانتقام من النظام السابق بل الوقوف على حقيقة إدارة هذا النظام وتحديد الضحايا من أجل إعادة الاعتبار لهم, في إطار هدف واسع وهو الوصول إلى العدل.
3- استقلال السلطة القضائية: فلا يمكن تخيل أي نوع من تطهير المؤسسات أو عزل الجناة أو حتى المحاكمات دون إقرار قانون جديد للسلطة القضائية, يضمن استقلاليتها وتحريرها من سطوة وزارة العدل والجهات الأمنية.
4- إنشاء محكمة متخصصة لمعاقبة جرائم النظام السابق: على البرلمان بعد تحصين السلطة القضائية أن يضع مشروع قانون شامل يضمن فيه محاكمة النظام السابق عن طريق إنشاء محكمة متخصصة لمعاقبة جرائم النظام السابق, بشرط أن يكون قانون إنشائها متناسبا مع المعايير الدولية للمحاكمات العادلة وإلا تعد المحكمة المنشأة محكمة خاصة أو استثنائية.
الولاية القضائية لتلك المحكمة:
تحدد تلك الولاية عن طريق قانون يصدره مجلس الشعب وتكون كالتالي:
1- تحديد اختصاص زمني للجرائم التي تحقق المحكمة في ارتكابها.
2- لتلك المحكمة اختصاص أصل في النظر في القضايا التي تدخل في اختصاصها دون غيرها.
أهداف العدالة الانتقالية :
1- معالجة ومحاولة لتضميد الجروح والانقسامات في المجتمع نتيجة لانتهاكات حقوق الإنسان وتعويض كافة الضحايا.
2- تحقيق العدالة للضحايا, وتقديم الجناة للمحاكمات العادلة التي تتماشى مع المعايير الدولية لحقوق الإنسان.
3- إنشاء سجل تاريخي دقيق للمجتمع ولكل الأحداث وتذكير الناس بأفعال الطاغية.
4- استعادة سيادة القانون والدولة وإرغام الخارجين عن القانون باحترامه ووقف الانتهاكات المستمرة لحقوق الإنسان.
5- إصلاح المؤسسات لتعزيز الديمقراطية وحقوق الإنسان في ظل القوانين والأعراف الدولية.
6- تعزيز التعايش والسلام المستدام بين جميع أفراد المجتمع والترويج للمصالحة الفردية والوطنية.
7- تفعيل دور مؤسسات المجتمع المدني ومنظمات حقوق الإنسان لترسيخ هذه العدالة.
8- منع وقوع انتهاكات حقوق الإنسان في المستقبل سواء للضحايا أو الجناة.
وقد تواجه تطبيق وتحقيق العدالة الانتقالية تحديات وعوائق عديدة منها النزاعات الطائفية والعرقية التي تهدد المجتمع والسلم الأهلي, واستنزاف البنى التحتية /قلة الموارد المادية/ والفساد المستشري وكافة مؤسسات الدولة بالإضافة إلى البطء في تنفيذ العدالة الانتقالية نتيجة لتلك العوائق سيفقد الضحايا الثقة بها وربما يلجؤون إلى الانتقام والثأر وكذلك عدم توثيق الانتهاكات بشكل كاف ودقيق.
ففي سوريا وبعد حدوث ترسانة من الانتهاكات بحق الشعب السوري والانسانية من قبل النظام الديكتاتوري, لا بد من تهيئة المناخ الملائم للمصالحة الوطنية ونشر ثقافة التسامح /أي نبذ العنف والانتقام واستفاء الحق بالذات والابتعاد عن الثأر وترك محاسبة الجناة للقضاء/. ومناهضة كافة أشكال التمييز العرقي والديني والتأكيد على محاسبة ومعاقبة المجرمين أياً كان ومنعهم من الاستمرار بالاستفادة من شغل المناصب في المؤسسات / العزل السياسي / وإعادة هيكلة مؤسسات الدولة / الأمنية والعسكرية والقضائية …./ والتأكيد أيضاً على ثقافة عدم افلات المجرمين من العقاب وخاصة في جرائم القتل والتعذيب والشرف, وتعويض الضحايا وإرجاع الحقوق إلى أصحابها وكل ذلك بعد العودة إلى تجارب الدول في تطبيق العدالة الانتقالية والاستفادة منها.
وأخيراً ليس آخراً: فإن تهيئة وإيجاد مناخ ملائم للمصالحة الوطنية وتحقيق وتطبيق العدالة الانتقالية في سوريا يجنب البلاد المزيد من العنف والانتقام ويكون عاملاً أساسياً في الاستقرار السياسي والانطلاق لبناء دولة ديمقراطية.