عمر قدور
لم يكن ينقص في المعمعة العراقية الحالية سوى ظهور تسجيل منسوب الى الرئيس الراحل صدام حسين، وعودة الصداميين إلى التبشير بقرب ظهوره مع إعادة الجدل حول هوية الشخص الشبيه الذي أعدمته السلطات العراقية،
حتى إن بعض الصداميين ذهب إلى القول بأن «الرئيس» توارى منذ 1999 ليحل محله البديل الذي أُعدِم، وبذلك يكون أمضى في الغيبة عقداً ونصف عقد، أي مدة تطابق تلك التي كان وضعها آخرون لـ «ظهور المهدي المنتظر». التسجيل المُجتزأ يُشيد فيه صدام بالأنبار والفلوجة تحديداً، كأنه يواكب أحداث اليوم، من دون أن يستثني احتمال منافستها من قبل محافظات أو مدن أخرى بوطنيتها، وفق فهمه الخاص للأخيرة.
المصيبة هنا لا تقتصر على وجود شريحة مصدِّقة لما يُقال عن ظهور جديد لصدام. فبقاؤه حياً أمر لا تُلام عليه هذه الفئة وحدها، لأنها في النهاية ليست فئة دينية مغلقة ذات لوثة عجيبة. المصيبة الأكبر هي في عدم قدرة العملية السياسية التي انطلقت إثر التدخل الأميركي على طي صفحة صدام نهائياً، على رغم مشاهدة الجميع لعملية إعدامه الشهيرة. بل إن مشهد الإعدام ذاته صار يُستخدم كحجة لنفي مقتله، إذ لا يُعقل من وجهة النظر هذه أن يُعدم البطل على هذا النحو، وإذا كان مفهوم الغيبة يمتح من الإرث الديني، فلا يمكن استبعاد العوامل السياسية التاريخية التي أدخلته في صلب المعتقدات الدينية.
قد نصف «قيامة» صدام بمحاكاة «انتظار المهدي» ضمن موعد محسوب على الضفة الأخرى، ذلك ما يعيننا أيضاً على فهم الشطر الثاني من المحاكاة حيث لا يتوقف تأثير صدام على ما يُسمى الصداميين، بل يتجاوزهم إلى ضحايا الصدامية، أولئك الذين لا يرون أنفسهم إلا صداماً جديداً أو ضحية محتملة له. وإذا كانت المسألة الطائفية تغلّف الصراع المستمر في العراق، منذ نحو عقد، فأول ما تثبته هو تلك المقولة السياسية لاستبداد صدام، وللأنظمة المستبدة المشابهة، مقولة: «إما أنا وإما الدمار الشامل»، أو كما جرى تلخيصها في سورية بشعار: «الأسد أو نحرق البلد».
صدام حي في نفوس أعداء الأمس، ليس أقل من حضوره في نفوس من ينتظرون «قيامته»، بل إن من يعتبرون أنهم حققوا انتصاراً ساحقاً عليه سرعان ما وقعوا في أسره. البعد الطائفي للنظام الجديد ليس منزّهاً عن مظاهر الاستئثار بالسلطة ككل، وعن فسادها المعمم، وعن نفي الديموقراطية بواسطة صندوق الاقتراع، أي بامتناع الديموقراطية عن التحقق بأدواتها ذاتها. فالديموقراطية، بالمفهوم العددي، استُخدمت أداة إقصاء وتهميش لا أداة مشاركة فعلية في العملية السياسية، ووظيفة صناديق الاقتراع هنا لم تتعدَّ وظيفتها السابقة في إرساء السلطة المقررة سلفاً. الطائفية والقومية استُثمرتا لمنع العملية السياسية، فحيث إن القسمة الطائفية والعِرقية غير معرضة للانزياح مع الزمن، لا فائدة تُرجى من محاولة التغيير بالأدوات الديموقراطية، ولا معنى فعلياً للحديث عن غالبية وأقلية سياسية بما أن الأقلية المذهبية لن تصبح غالبية مهما بذلت من جهد.
قوة صدام تكمن في انتفاء الإطار الوطني للصراع السياسي. فالتركيبة السياسية المؤثرة في العراق إما أنها تعتبر نفسها خارجية كما تفعل القوى الكردية، وإما أنها أتت إلى الحكم بموجب صفقة خارجية كما الحال بالنسبة إلى نوري المالكي. لذا لا تنتمي مشروعية المالكي إلى الالتفاف الطائفي الصلب حوله، بمقدار ما تنتمي أساساً إلى المرجعية الخارجية التي فرضته على الطائفة وعلى زعاماتها الأخرى. وذلك كان لا بد أن يجعله خارجياً، لأن وجوده لا يرتكز في المحصلة حتى على إرادة ناخبيه المقرّبين. الوجه الآخر للاستئثار بالسلطة يتجلى دائماً بالاستغناء عن الشعب، وإذا بدأ هذا بتهميش المكوِّن السنّي من الشعب العراقي، فإن تتمته هي في الهيمنة المطلقة على المكوِّن الشيعي بحكم الارتباطات الخارجية العضوية لنخبته السياسية. هذا ما فعله أيضاً نظام صدام، ببعديه الاستبدادي والطائفي، فهو كان خارجياً أيضاً على رغم عدم تبعيته المباشرة للخارج، فالعبرة أولاً في أنه خارجي تجاه ما يُفترض أن يكون شعبه.
لدى الصداميين نرى ما يمكن تسميته بـ «المظلومية الصدّامية»، إذ يرى أصحابها أن قائدهم ليس استثناء في المنطقة من ناحية التسلط والقمع. هكذا تُطل نظرية المؤامرة بأزهى صورها لتصنع من الطاغية ضحية، وستتعزز هذه المظلومية خصوصاً مع تمتع الشق السوري لنظام «البعث» بتسامح دولي قلّ نظيره إزاء الجرائم التي ارتكبها في تاريخه القديم، وإزاء تلك التي ارتكبها على الملأ منذ بدء الثورة. على المقلب السوري، يبدو صدام حياً بأقسى صوره، وبما يفوقه وحشية في كثير من الأحيان، فما الذي يمنع إذاً التغني بالأصل وتوسل «قيامته»؟ ثم، ألا يقوم حزب «البعث» أصلاً على فكرة «القيامة»؟
منذ بدء العملية السياسية في العراق، لم تُحدث العملية الانتخابية تغييرات جوهرية، حتى على مستوى الشكل. الرئيس لا يزال رئيساً مع جهل بحقيقة وضعه الصحي، ورئيس الحكومة غير المقبول شعبياً كان يستعد لولاية ثالثة على رغم الرفض الشعبي، ورئيس حكومة كردستان لم يتزحزح من منصبه مع وجود مؤشرات إلى النية في التوريث ضمن نسق يختلط فيه القومي بالعشائري. شبهات الفساد تتوزع بالعدل من الشمال إلى الجنوب، ويتوزع معها التصرف بالثروات العامة كمُلك شخصي، إلى درجة التصريح بأن التوافق على صفقة لتنحية المالكي يقتضي تضمّنها بنداً يعفيه من الملاحقة في قضايا جنائية تتعلق بجرائم منسوبة الى ميليشيات يُشرف عليها، ويعفيه أيضاً من الملاحقة في قضايا الفساد.
حقاً، لا شيء يمنع عودة صدام، فوحشية نظامه أكثر انضباطاً ومأسسة من جرائم «داعش»، وطائفيته لم تكن معلنة على النحو الذي يظهر عليه ورثته في السلطة، ثم إن خلفاءه جميعاً لا يتمتعون بحس الطرافة الذي تمنحه السلطة المطلقة. الآن، كم يبدو محقاً ذلك العراقي البسيط الذي اشتُهر على شاشات التلفزة وهو يردد: صدام لم يمت… إنه بسبع أرواح.
عمر قدور كاتب وروائي سوري – الحياة