مؤتمر الطاحونة – حسين بدر

 

وبين هذا الرأي وذاك انقسم مجلسهن إلى محورين متغالبين, محور القمح الطّري ومحور القمح القاسي, دون الوصول إلى نتيجة, على الرّغم من وجود العديد من المشتركات بينهن في الرأي, منها أهمية وجود البرغل كضرورة مرحلية  في المنزل”

كان يدهشنا ذاك القـِمع المعدنيّ الكبير, منتصباً على أعمدةٍ من الحديد, صوت ثابت يتكرر على مسامعنا, هو صوت المجرشة, غبار الطحين المحمول بمزاريب الضوء يخترق نصف المطحنة, بعض العصافير كان يقف على النافذة العالية يراقب حركاتنا.. وبعضها الآخر يلتقط حبات القمح المتناثرة هنا وهناك, قرب أكياس القمح المتكئة على الحائط القريب وعددٍ من الكراسي الصدئة كجنودٍ متعبين, مكتوب عليها بخط رديء فلان الفلاني ” برغل ” أو فلان “طحين”.

عامل المطحنة (القرّاش ) كان دائم الوقوف بقرب القمع الضخم, يتفحص البرغل بيديه للتأكد من مطابقته للمطلوب, وينبه زبائنه بحركة إمائية على ضرورة تقريب الأكياس, الصراخ هو طريقة الكلام المتاحة في ضوضاء القاعة أو الطاحونة, الإشارة هي اللغة الأقوى من صوت المجرشة, عنق الكيس المسكين معلّق بخطافَين يصب فية مزراب الصاج, وعجوزٌ صاحبة البرغل تصرُّ على تنعيمه بشكل أفضل, ثم تعود إلى جلسة النساء المنتظرات, المنسجمات بالحديث عن الأوضاع التي آلت إليها البلاد ….كانت المطحنة تمثل مؤتمراً مصغراً لبحث قضايا في غاية الأهمية . تبدأ  كل واحدة من العجائز بتقديم ورقة العمل الخاصة بها, ثم تبدأ بطرح مشكلتها بشيء من التفصيل المملّ, وحليفتها تصادق على ما تقول بمجرد أن “هزت رأسها ” أو ” أغمضت عينها ” أو ” قلبت شفتها السفلى” , على أن دورها بالحديث يبدأ بمجرد أن مسكتْ يد آخِر متحدثة, وتبدأ بطرح مشكلتها, ثم تُسلم الحديث لأُخرى وهكذا …

إلا أن الأمور تأزمت بينهن وارتفعت الأصوات عالياً, عندما تمَّ طرح ومناقشة موضوع  ” البرغل ” وأيهما ألذُّ طعماً وأطيب؟ البرغل الناعم أم الخشن, النشويّ الباهت أم اللامع, الناتج عن القمح الطري أم القاسي؟ وتعالت الأصوات, وتعددت الأراء, و رُفِعت الجلسة للتشاور والاتصال بصديق , ومن ثم العودة للإنعقاد,الأمر الذي لفت انتباه العديد من الحضور ” الزبائن ” وأثار فضولهم لمعرفة مايجري, ومن دون أن تتطرق إحداهن لبحث آلية وسُبل الحفاظ على البرغل الناتج, وحمايته من قطعان الفئران الغازية وهجمات الخنافس الدخيلة على منتوجاتنا, وبين هذا الرأي وذاك انقسم مجلسهن إلى محورين متغالبين, محور القمح الطري ومحور القمح القاسي, دون الوصول إلى نتيجة ,على الرّغم من وجود العديد من المشتركات بينهن في الرأي, منها أهمية وجود البرغل كضرورة مرحلية  في المنزل , لمواجهة أزمة الغذاء المتفاقمة هذه الأيام نتيجة الحصار المفروض على المنطقة من قبل المجموعات الإرهابية, وضرورة توحيد الصف حتى لايتم استغلالهن في الإجرة من قبل صاحب المنشأة.

وأخيراً اختتم المؤتمر أعماله فور سماع صوت المجرشة وقد بدأ بالتباطؤ ..شيئاً فشيئاً. وقررن بالإجماع  ترحيل موضوع البتّ في أيُّهما أفضل للجرش الطري أم القاسي إلى موسم الجرش القادم. أما بخصوص  الشوفان ورغم أهميته وقيمته الغذائية وضرورته في مثل هذه الظروف العصيبة, فأجمعن دون استثناء على إقصائه واستبعاده من البرنامج الغذائي, كونه يتمتع بزغابات شوكية عصيّة على الابتلاع, كذلك شأن باقي عناصر الفصيلة النجيلية التي لاتنتمي إلى محور القمح المبارك.

بعدها قامت كل واحدة منهن بربط أكياسها, ونظفت ثوبها من الطحين والغبار, مع ضرورة وجود آثار يد بيضاء على قفا الثوب كانت قد مسحتها اثناء ربط الأكياس. يقمن بعدها بدفع أجرة البرغل, وتغادر كل واحدة من طريق …تنزل العصافير من النافذة العالية بهدوء.. وتلتقط بقايا القمح وبقايا الحديث المنسي في الطاحونة .