إبراهيم اليوسف
بمباركة حكام المباراة المحمومة، أنى شقت الكرة أبعاد فضاء المكان، بمقاييسه المترية، تستبد به أناه الموزعة في الفريق، بشاراته، وملابسه، وأرقامه، وحصته من جمهوره في الملعبين: الصغير منهما والكبيرفي آن.
كل شيء مرتبط-هنا- بموازينه: حجم الكرة، وهواؤها، ومسار اللاعب، ومخياله نائساً هوالآخر، في أمداء كثيرة، حدودها لون راية الجمهور، هتافاته، دويُّ تصفيقه، درجة حماسه الملتهبة، والنظارة خارج المسرح الصغير، حيث هو الآن في كل بيت، اسمه، والرقم الذي يدل عليه، إيقاع اسمه، موجز سيرة حياته التي تنتشرعلى حين غرة على لسان المذيع، وهو يترجم الحركات في لغة جماعية، لا تحتاج الترجمان، في الأصل. بل وفوق كل ما هو في علم الحساب، والفيزياء، والكيمياء، ثمة علم إشاريٌّ، لا يحتاج إلى المزيد من البلاغة كي يوشج بين سكان العمارة الكونية، مادام أن مليارات البشر، هم في لجَّة متابعة الحدث، وفق حركة ثواني ساعات العالم اليدوية، والبيتية، الإلكترونية منها، والتقليدية، ومادام أن الوقت محكم، والخطوات محكمة، والنظرات محكمة، والشهقات والزفرات محكمة، بل والهواء محكم، ودورة الكرة محكمة، وفق قانون اللعبة، ليظل هؤلاء جميعاً، في انتظار رجحان كفة اللعب، واختراق الكرة حصن اللاعبين وحارس المرمى، ليكون ذلك حدثاً، كونياً، في ذاكرة أولمبياد المكان، في دورته المربعة، وتاريخه المدون وفق ذلك منذ قرون بعيدة.
لا حاجة لاستثارة الحماس، و لاحاجة لاتخاذ الموقف بين خيارين، طرفاه الفريقان وهما في ما يشبه الحرب-حقاً- بيد أنها حرب أشبه بالمسرحية، معروفة الممثلين، والزمان، والمكان، والنظارة، والفكرة، ومادامت ذروة الحدث، ونتيجته، وأبطاله يظلون في ذمّة المجهول، حتى وإن قاربته العلوم، بأرقام أولى، وتكهنات تستعجل تشخيص الفائز، حيث لكل نبوءته، ولكل أمنيته. بل ولكل موقعه، إذاً، ليس على المقعد الذي يشغله- فحسب- وإنما في فضاء توقع ما ستؤول إليه الكرة من نتائج موشكة الوقوع، في إحدى الجهتين المتناقضتين. إذ كل منهمك باختطاف شرف النصر، من دون أن يبالي بما يتركه من حسرات، وألم، في نفوس الطرف الآخر، ومن جاؤوا إلى نصرته، مجتازين آلاف الكيلومترات، بل من هم في استنفار كيلومتراتهم المتبقية وراء حدودها الجمركية، وبوابات حدودها، وهي تعيش في حمأة الحدث العالمي المرصود ذاته.
العالم الآن بين ناسٍ ومنسيٍّ، بين هائج مائج، وآخر ممجوج، يتابع مايترتب عليه من أسى يتدرج بأشكاله العديدة، مادامت اللعبة الخلبية تنتصرعليه، في اللعبة الموازية، المرئية، اللعبة المحكمة التي يدخل في لجتها، واقعاً، و هوخاسرها الوحيد، لا تسعفه الثقافة الموازية للثقافة الأولى، بل والسابقة عليها في زمنها الأرضي، هو وحيد، ومكسور، يلعق هزائمه، خارج البشاشات والشاشات، يجر وراءه مزق روحه، وأشلاء جسده، ودمه، وأوجاعه، ومجاعاته، و عجمة سرده الأليم، حيث لا ترجمة لها على منصة التشريح الجاري، قبالة الدهشة، أو عدمها، من الصخب الأولمبي، بجهاته الستة، على حد سواء.
هي الكرة تتدحرج، نحو مرماها، تمضي بها أقدام، وتصدها أخرى، توجز كرة أخرى، يقع في فضائها هؤلاء، وهم أحوج لمحو”الكره”، ينادي امرؤ اللاعب: أن امضي بها، فلا يتعدى وقع صوته شاشة التلفاز، الكاتمة للرغبة، ما يتكرر في نسخة المستغيث، صوتاً، يرتد إلى نحره، ليشاهد حواجز الرعب والموت، تظهر- في وجهه- فجاءة، وهو يروم أن يستعيد الهواء، يطلق فيه أطفاله فراشاتهم، وكراتهم، وأحلامهم المجنحة، وهي في فم المحرقة الأكيدة.
الأولمبياد يستمر، الألم يستمر، الفرح يستمر، العالم يتطاحن، الرؤى تتطاحن، الأفكارتتطاحن، وثمة حكم آخر، حكام آخرون خارج حدود الأستاد، المستعر، مشغولون عن كل ذلك، بما يضعون من خطط، حيث المباراة الموازية، أعمق جذراً في قلب التاريخ، وما قبله، يدحرجه لاعبون قميئون، مختلفون عن لاعبي روح الحضارة، في محطتهم البرازيلية، وكاكاوها، وإبداع شعبها، ومزارعهم، وأغانيهم، وهم يجسرون نحو العالم، يضعون شارة المرور، على طريق اللعبة الجبارة.