حينما اشتعلت النار بشاشة السينما وبأجساد الأطفال, في يوم الأحد, الثالث عشر من شهر نوفمبر في سنة 1961, أراد الأهالي بكردهم وعربهم وسريانهم إخماد النار بدموعهم وحدتهم, وبالمطر الذي بلل وجوه العذارى في تلك الليلة. انتشلوا شهداء القوميات الثلاث من وسط الرماد, وحمّلوهم في عربات, ومدّدوهم في الجامع الكبير جنباً إلى جنب. قرع أجراس الكنائس وتكبيرات المساجد شقـّت – حتى آذان الفجر – سكون ليل عامودا البهيم مشكـّلة سمفونية حزينة تنادي: الحِداد, الحِداد, في عامودا حداد.
في اليوم التالي خرجت عامودا عن بكرة أبيها, حتى عصافيرها وأشجارها, أزهارها وورودها, زركشت الطريق من الجامع الكبير إلى المقبرة الكبيرة بالسواد, رفعوا الشهداء على الأكتاف والأفئدة, وواروهم في ثرى عامودا.
في الألم ذاته كان طريق قامشلو يحتضن شهداء عامودا, ينكمش على نفسه كي يختصر لمسافة ويوصل الجرحى إلى المشافي بأسرع وقت ممكن, لم يكن طريق قامشلو بخيلاً قطّ على جرحاه… !
عندما قالوا لـ (بافي محمد): ابنك فهد بخير وقد قد غادر إلى البيت, لم يعد من منتصف الطريق, بل ردّ عليهم: أطفال عامودا كلهم أطفالي؛ كلهم فهد.
ترى كم من أمثال (بافي محمد) تحتاجهم عامودا ليوقظوها من غفوتها، ويقولوا لها: أنت سائرة نحو المجهول, كلكم فهد, أنتم أخوة … !
شاء القدر قبل سنتين أن يمسك “آزاد” يد عروسه وابنته مع ستة وثلاثين شخصاً من أهالي عامودا في ليلة ظلماء, ويعبروا الحدود للقاء البحر الغادر, أهالي هذه البلدة لا يعتريهم الشكّ تجاه أي شيء, لذا لم يفكّروا البتة أن يغدر بهم البحر, هم يثقون بالسماء, الشمس, الجار, الحدود, البحر وكل شخص. لكن ربما كان البحر الأسود جائعاً, لم يعِ نبض أفئدة العشاق, ولم ير البسمة المرسومة على وجوه الأطفال, هو البحر, هو الغدر … ! لفظهم ثانية, و كانت الحدود مفتوحة أمامهم لاستقبالهم في صناديق.
مرة أخرى, احتضن أهالي عامودا بعضهم, اختلطت عبراتهم, كسروا صمت الليل بصراخ الأمّهات والأخوة, , يداً بيد, زينوا قبور شهدائهم بالورود والأزاهير, بللوا ثراهم بلطف من ماء أفئدتهم.
آهٍ أيتها الحدود, آهٍ ! منذ متى أضحت الحدود تفصل بين قامشلو وعامودا ؟ عامودا لا تحب الحدود, كذلك قامشلو. كان قلبها ينفطر لأنه لم يكن بوسعها احتضان جرحاك كما حضنتهم وداوتهم يوم احترقت السينما, وجلست قرب رؤوسهم كأم عاد ابنها من الغربة. لمَ لمْ ترسليهم, كيف احتملت ذلك, ودماء نادر و برزان تسيل في شوارعك كفريسة جريحة تركض على الثلج, عامودا…لم هذه القساوة؟
عامودا لا تقتل الأنبياء, وعيسى كان نبيّاً يذود عن حياضك من هجمات الذئاب المتربّصة, كيف صلبته أخرى..!؟
اصرخي يا عامودا, وقولي , لست من قتله, أنا لا أقتل الأنبياء, لا أقتل, لا أقتل, القتل ليس من شِيَمي.
عامودا كانت تحب نادر, تنصحه دوماً, ادرس يا بنيّ, فالمستقبل أمامك.
عامودا كانت قد عقدت الكثير من الآمال على سعد, تتابع دراسته, تعرف أصدقائه فرداً فرداً, ما كانت لتشعره بالنقص تجاه أي شيء, تربت على كتفه دوماً وتقول: بنيّ سعد, اقتربت الثورة من نهايتها, لم يهنأ أجدادك بحريّتي, أعدك أن تهنأ أنت بها.
كانت عامودا تتباهى بنفسها بين المدن وتقول: آراس يحرسني, أنا فخورة به. ها أولادي قد غدوا رجالاً يدافعون عني, عينٌ على دراستهم وأخرى علي.
عامودا ادّخرت برزان لسواد الأيام, درّبته على الكثير من الفنون, عدا فن القتل, أطعمته حليباً وسكراً.
برزان نادى في حشرجة الموت: أمّاه, قلت لي إيّاك أن تتعلم فنّ القتال, وهاهو أخي يقتلني. دون أن تنظر عامودا في عينيّ برزان, لمحت نجمه الذي هوى في تلك الليلة و قالت: هو الندم أخيراً بنيّ… !
عامودا ما الذي فعلته بـ ” شيخو “الذي نذر عمره لأجلك, كان يقول لك كل يوم: أفنيت عمري في خدمتك, لكن أبشرك, أولادي فداء لك. طعنتهِ في الـظهر, جعلته ضحية الاقتتال الأخوي, وجعلت أطفاله يتامى هذ الاقتال.
عامودا … الكبار لا يخطئون أبداً و أنتِ كبيرة, خطأ الكبار بألف.
عامودا … أزيلي عن وجهكِ الستار, الحقيقة جليّة, عيها,وتأبّطيها.
عامودا … عودي إلى تاريخكِ, وهويتكِ.
عامودا … تلقبين بـ (ذات العينين السوداوتين ), فلا تبدليها بـ (ذات العينين الحمراوتين ) .
عامودا … كنت متّحدة عندما قصفك الفرنسيون في (الطوش),في الماء, وفي النار, بعربك ومسيحييك..
عامودا … اليوم وفي ثورة الكرامة, قد فرقتِ الكرد .
عامودا … كفى … كفى اقتتالاً أخويّاً, … كفى انتحاراً.
قادر عكيد
عن الكردية: شاوان عيسى.