“ في كثيرٍ من الأحيان يبقى الأديب سنوات وسنوات يكدح ويكتب وينشر دون الالتفات إليه، أو أن يلقى تعاضدا ما يساعده على تحمل التبعات المعيشية ويتفرغ لإبداعه، يكافح ويقاتل وحيدا لتأمين لقمة الخبز، والانكى.. يجد التجاهل واللامبالاة مَّمن هم أولى بان يهتموا به، واعني بهم (أولاد الكار)”
– من المهم أن يكرم الأديب وهو على قيد الحياة لينال حقه ويتمتع به، وهذا حق طبيعي لمن أفنى عمره في عملٍ، ناهيك إذا كان هذا العمل في سبيل إعلاء شاؤ الكلمة.. ولكن من يكرم منْ؟
حقيقة.. ومما يأسف له قولنا وهو صحيح، بأن الأديب عندنا لا يأخذ حقه، ولو جزء من ألف، لامرئ أفنى عمره وزهرة شبابه في سبيل إعلاء شأو الكلمة، وهو يحمل مشعلها لرسالة تهذب في النفس معانيها وتسمو بها إلى الفضيلة والجمال.. العدل والخير أمانيها…
وهكذا يفني الأديب عمره في مجاهيل الأدب والفكر أعواما وأعواما دون أن يلتفت إليه أحد، عكس بعض المطربين والمغنين الذين من خلال لحن أو أغنية، أو من خلال تسجيل “شريط كاسيت” وإذاعته حتى يتهافت عليه الجمهور والمال والشهرة، ويبدأ بالتمتع في مباهجه.. مع العلم بأن ما يقدمه ( وهذا ليس نقص في شيء) لا يعدو أن يكون مرتبطا آنيا بشعور من البلاهة والغياب عن الوعي متشبها بالجذبة .
وللعودة.. وفي كثيرٍ من الأحيان يبقى الأديب سنوات وسنوات يكدح ويكتب وينشر دون الالتفات إليه، أو أن يلقى تعاضدا ما يساعده على تحمل التبعات المعيشية ويتفرغ لإبداعه، يكافح ويقاتل وحيدا لتأمين لقمة الخبز، والأنكى.. يجد التجاهل واللامبالاة مَّمن هم أولى بأن يهتموا به، وأعني بهم (أولاد الكار) إياهم الذين من المفروض أن يلتموا أو أن يحتفوا ببعض، ولأنهم الأقربون الذين يعرفون مما يكابدون، ليسدوا النقص أو الغبن الذي يلحقهم، لأن الاحتفاء به هو احتفاء بأنفسهم ذاته، تقديرا واحتراما، وهو ما يجمعهم في اتحاد أو جمعية تدافع عن حقهم وتنشر نتاجاتهم الإبداعية تباعا.. الخ.
على من تقع هذه الجريرة، ومن يحتفي بالأديب إن لم يكن من النخبة إياهم؟، والأديب الذي نعنيه -أكان شاعرا أو قاصا أو روائيا أو مسرحيا أو صحفيا- فهو يمثل العقل المفكر الواعي الذي ينقل بأمانة ويسطر آمال الجماهير وآلامها، فإذا أردت أن تتعرف على شعب ما فانظر إلى أدبه وما يسطره أدباؤه، وهم عن حق مرآة المجتمع الصادقة وشهود أمناء على ثقافته.
نعم.. وعلى هذا، وإذا ما بدى في أعين رفاقه ما سلوه حينها لتصحيح غبن وإجحاف بحقه، وإن جاء التكريم وخطر لأحدهم أن يكرم أحدا، فان الأغلب يكون بعد وفاة الأديب ويتم في غيابه، ليلقى ما كان يستحقه في حياته بعد فوات الأوان، الذي لا يفيده في شيء الآن أكثر من اعتراف وإقرار تم فيه تجاهله تجاه حقه، (بالطبع هناك استثناء لبعضهم الذين لهم رفاق حزبيين أو شلة سياسية تمجد وتكرم رفيقها). وهم بالمحصلة يكرمون نهجهم، وهذا مقيت في حد ذاته فمهما كان صاحبهم فهو الفتى العبقري الفطحل النابغة.. ولولا انضمامه إلى صفوف حزبهم لما كان كيتا وكات..
وقد يكون للغيرة والحسد.. للأنا المضخمة والنرجسية الزائدة، والمنافسة والاستحواذ على الغنائم.. دورا في تصغير دور الآخر، كأنه التباري والمنافسة للاستحواذ على قلب فاتنة لعوب، “وهذا حق”، فالاستقلالية والتفرد والأنا أوفر حظا من الآخر، وأنا (ولا أعوذ بالله من كلمة أنا ) فوق الجميع، وقبل الكل ولا يعلى عليه أحد ولا يتقدمه أحد .
إذاً.. ولإعادة الاعتبار فالدور لا يقع على الاتحادات أو الجمعيات فقط المشغولة بأيتامها، لا.. ولكن يقع- أي الدور- بالدرجة الأولى على المؤسسات الإعلانية، وبخاصة دور النشر التي تنشر وتطبع للأديب حتما، فهي من ناحية، حين تكرم الأديب فهي بالتالي تكرم منتجاتها، وتعلن عن بضاعتها بأفضل السبل، وهي شركة أو محل تجاري همها الربح.
فحين تروج لمنتجها وتعلن عن مطبوعاتها دون خطوة أخرى، فهي بهكذا خطوة لا تفي بالمطلوب تجاريا لتصريفها وتسويقها.. لأن الأمر يبقى ناقصا، مبتورا، دون تكريم الأديب الكاتب ذاته، بعد أن تدفع له مستحقه – الذي عادة ما يكون دون المطلوب بحجة كساد السوق وتركين البضاعة وعدم رواجها كما هو مؤمل- بل ستستفيد من الدعاية والإعلان المزدوج، وتستطيع أن تتعاون مع بعض الدور الأخرى للنشر والتوزيع، وهنا يتم ضرب عصفورين بحجر واحد، تكرم مبدعا وتروج لمنتجها. فالمعروف حين تكرم دار النشر أديبا فالدعاية تساعد الكاتب وتروج الكتاب معا، ومن ثم تفك عقدة لا يعترف بها أحد، وتبرز أهمية الكاتب والكتاب معا كما تفعل بعض دور النشر الغربية .
ولإتمام هذه الخطوة، هناك ولا شك عقبة بان المؤسسة أو دار النشر ليست ملزمة بكاتب واحد، تطبع أو تحتكر كل منتجه الأدبي حتى تكون هي أيضا ملزمة أمام استحقاق تعاقد أدبي، أو توافق حقوقي، إن كل الأمر.. لكل دار نشر سياسة ونهج فيما تقدمه من منتج كأي بضاعة تُنـزل إلى السوق، وما يستحوذ على اهتمامها الذي يأخذ جانب السوق والأخذ والطلب وهو الربح لمواصلة العمل -الطبع والنشر والتوزيع-، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى.. كذلك الأديب فهو يطبع هنا مرة، يطبع مرة هناك، حسب المادة وحسب التوجه وحسب الظرف الخ.
وهنا يبقى الكل دائر على محور لولبي لا يؤدي إلى تعاون مركّز.. وهكذا تنعدم حلقة السلسلة وتنعدم عروى ما قيل أعلاه، وتبقى البوصلة منحلة على هواها ولا تشير إلى جهة معلومة، والسؤال إلى متى تدور العجلة مثقوبة ؟!.
.. وهذه كانت مني.. دعوة صادقة قد يستفيد منها الجميع، فهل من سامع أو هل من مجيب..؟.
نشر في صحيفة Bûyerpress في العدد 18 بتاريخ 1/5/2015