والحالتان العراقية والسورية تجسّدان نموذجاً لافتاً في هذا المجال. وباعتبار أن الأولى باتت في مركز الاهتمام بعد ما حدث في الموصل، ستكون هي موضوعنا الأساسي هنا.
العراق بصيغته الحالية حصيلة تقاطع المصالح بين بريطانيا وفرنسا، وتمكّنهما من موقعهما المنتصر من فرض الأمر الواقع على وريث الدولة العثمانية، الطرف الخاسر.
فالملك فيصل، رحمه الله، وبعد أن أطاحه الفرنسيون في سورية، كان حريصاً على ضم ولاية الموصل إلى العراق، ليحقق بذلك نوعاً من التوازن الطائفي، متجاهلاً ما سيترتب على ذلك من تداخل قومي. ويبدو أن هذه الرغبة تقاطعت مع مصالح بريطانيا فتخلّفت عن وعودها التي كانت قد أغدقتها على الكرد، وبرز العراق الحديث غير المتجانس على المستويين القومي والمذهبي، محاطاً بحدود أثارت، وتثير، أكثر من استغراب واستفهام. لكن منطق المصالح له الأولوية باستمرار.
ومع ذلك، كانت هناك فرصة كبيرة أمام المكوّن العربي- السنّي لأداء دور ريادي على صعيد توحيد العراق ضمن إطار مشروع وطني، يطمئن الجميع، ويرسّخ شعور الاعتزاز بالولاء الوطني لدى الجميع؛ وذلك لارتباطه مع الجنوب الشيعي عبر الانتماء القومي، ومع كردستان عبر الانتماء المذهبي. غير أن كارثة حزب البعث صادرت هذه الإمكانية الواقعية ولم تفلح كل الجهود التي زاوجت بين رومانسية الإيديولوجيا وقوة السلطة في الاحتفاظ بالوحدة الصعبة. وقد بلغ الاستهتار والاستخفاف بحقائق التاريخ والجغرافيا، وبالمشاعر، حدوداً غير معهودة، وأرغم نظام البعث غالبية الشيعة العراقيين على انتظار القادم من وراء الحدود، وذلك عوضاً عن الإعلاء من شأن المرجعيات الوطنية، وتمكينها من تحقيق صيغة من الانسجام بين دورها الروحي القيادي، وقدسية المكان سواء في النجف أو في كربلاء.
أما بالنسبة إلى الكرد، فأصرّ النظام البعثي على منطقه الرغبوي، فأنكر وجودهم، وفرض عليهم التبعيث، وجعلهم ضحية كل أنواع الجرائم التي عممها لاحقاً على الجنوب أيضاً.
وهكذا غدا العراق على حافة الانهيار، لا سيما بعد اجتياح الكويت عام 1990 في إطار سياسة الهروب إلى الأمام التي اتبعها صدام حسين، وهي التي ارتدّت وبالاً عليه، وحصرت سلطاته عملياً في بغداد، والمناطق المحيطة بها.
وبعد سقوط النظام عام 2003 بقرار صريح، وإسهام فاعل من الجانب الأميركي، تبيّن للجيمع أن الصيغة المركزية القديمة للعراق لم تعد صالحة، بل لم تكن صالحة من الأساس. وكان الانتقال إلى النظام الاتحادي/الفيدرالي. ولكن المشكلة أن النخب العربية- السنّية لم تتمكن من إقناع نفسها، قبل محيطها، بأن الصفحة السابقة قد طُويت، وبأن مرحلة جديدة بمحددات وآليات مغايرة قد بدأت، فلم تنخرط بالعملية السياسية كما ينبغي، وناصبت فكرة الفيدرالية عداء افتقر إلى الأسس والمسوغات الواقعية، وتجاهلت المتغيرات الإقليمية والدولية وتفاعلها مع مقتضيات المصالح الاقتصادية المستجدة على مختلف المستويات.
ومع مرور الوقت، أدركت النخب المعنية استحالة العودة إلى ما كان عليه الوضع سابقاً، وتحوّل المكوّن العربي- السنّي من قوة بذاتها إلى قوة لذاتها، إذا جاز لنا استخدام هذا التعبير الماركسي ضمن هذا السياق.
ما حدث في الموصل، والمناطق العربية- السنّية الأخرى، يمثل انعطافاً مفصلياً سيؤدي إلى ارتدادات على الوضعية العراقية العامة، وستترتب عليه تبعات. فنحن نتحدث عن الموصل صاحبة المكانة المتميّزة في التاريخ والجغرافيا، والحجم البشري، والدور الاقتصادي، والموروث الشعبي. وما حدث يجسّد رغبة في استعادة الدور والمكانة، ولكنها رغبة موشومة بميسم داعشي يثير التوجس لدى الجميع، بخاصة إذا وضعنا في اعتبارنا الجرائم التي اقترفها، ويقترفها هذا التنظيم في كل من سورية والعراق.
أما المالكي فمن الواضح أنه مصمم على التمسّك بالسلطة وبأي ثمن، وهو على استعداد لتلبية كل المطلوب منه لقاء البقاء، شأنه في ذلك شأن بشار الأسد، مع فوارق في الخلفية والإمكانية والدور. واستناده إلى فتاوى المرجعيات الدينية، بعد إخفاقه في الحصول على تفويض برلماني، لـ «شرعنة» الصلاحيات المطلقة التي يمارسها فعلاً لا قولاً، يؤكد مدى تماهيه مع الراعي الإيراني من جهة الخلط ما بين المذهبي والسياسي، ومن دون إعطاء أي اعتبار للأخطار التي ستتمخض عن ذلك في بلد متعدد المذاهب والطوائف والقوميات مثل العراق.
إذا سارت الأمور عراقياً في الاتجاهات المتوقعة، بناء على المقدّمات الراهنة، وتلك الممهدة، فإن الوضعية العراقية هي في طريقها نحو التفاقم والتشابك. وهي وضعية تذكرنا إلى حدٍ كبير بما كانت عليه الأمور في الاتحاد اليوغوسلافي السابق، حيث تفاعلت الاصطفافات المذهبية والقومية مع مصالح مختلف القوى الداخلية والإقليمية والدولية، وأدّى ذلك إلى تقسيم واقعي، امتلك لاحقاً الشرعية الدولية، في ظل مناخات المصالح المختلطة للقوتين الأكثر نفوذاً وإمكانية في ميدان رسم السياسات وفرض الإرادات.
التباينات بين القوى السياسية العراقية ومرجعياتها المجتمعية كبيرة؛ والهواجس جدية. كما أن الثقة شبه معدومة، ولا توجد آلية مجدية لحل الخلافات. وكل ذلك سيؤثر في التطورات المقبلة.
ما يحصل في العراق إرهاصات عملية تكوين جديدة لم تتبلور ملامحها بعد. عملية تأتي في ظل عجز عربي رسمي، وانشغال، إن لم نقل عدم اهتمام، شعبي، وتعاظم لدور قوى اقليمية ساعدت في دفع الأمور في كل من سورية والعراق نحو المستويات التي تتقاطع مآلاتها مع توجهاتها.
هل سنكون أمام عراق جديد اتحادي حقيقي، أقدر على استيعاب المطالب المشروعة، والتحولات الجديدة، على مختلف المستويات؟ أم إنها إرهاصات تقسيم، يحمّل كل طرف مسؤوليته للآخر، وسيغدو واقعاً مع دوران ماكينة الوقت؟ والأخطر هو أن نواجه جرحاً – إن لم نقل جروحاً – ينزف دماً وإمكانيات. من يدري؟
أسئلة عدة يطرحها المرء على نفسه، ويبدو أن الجواب الصحيح لم يكتب بعد. هذا إذا كان هناك مثل هذا الجواب أصلاً. ولكن في كل الأحوال لا بد من أن نأخذ العلاقة التفاعلية بين سورية والعراق في الاعتبار، لأنها علاقة قديمة- مستمرة، علاقة تعود بجذورها إلى مرحلة التمازج الحضاري بين ما بين النهرين وسورية القديمة. وهناك الكثير من القواسم المشتركة بين البلدين. دمشق كانت عاصمة الدولة الأموية، في حين ولدت بغداد لتكون عاصمة العباسيين. وعرف البلدان بعد الحرب العالمية الأولى الملك ذاته، ثم منيا معاً بكارثة البعث، وها نحن نعاني معاً التدخل الإيراني بكل وجوهه، ويبدو اننا سنستمر معاً في مواجهة الاستحقاقات والتحديات المقبلة.
عبدالباسط سيدا- كاتب وسياسي سوري