لا تحزني أيّتها الفراشة
لعمرك القصير
لأنك وفي الغمضة تلك
منحتِ طولاً لعمر الشعر
لم يعطه حتّى نوح
فلا تحزني أيّتها الفراشة”.
هذه القصيدة، التي بعنوان “عطاء”، للشاعر الكرديّ شيركو بيكس ربّما تصلح لوضعها على شاهدة قبره. أو على واجهة مدخل متحفه الذي لم يفكّر أحد ببنائه لحدّ الآن. ليس لأنّه لا يستحقّ، بل لأنّ السلطات هنا تخذل الشعر في أوّل الأمور التي تفكّر في خذلانها.
وهذه القصيدة بالذات تدلّ على ذلك الإرث الذي كان يُريده شيركو من هذا العالم ألا وهو الشعر. في أن يكون أحد المكوّنات الصادقة والرشيقة والهشّة، في ذات الوقت، التي كانت تحرّك طبخة الأخلاق البشريّة التي أطفأت نارُها منذ زمن بعيد.
تلك الهشاشة والرقّة التي تمنح العمر الطويل في تذكّره كشاعر، وليس بسبب طول العمر كناحية حسابيّة فحسب. وهذا ما يجعل كنيته “بيكس″ والتي تعني “بلا أحد” بالكرديّة، أو الوحيد، أكثر دلالة على ما أراده من الكتابة كطريقة للتعبير عن النفس. لا يذهب الأمر إلى ربط اسمه بعائلة أو عشيرة أو مدينة، بل بالضبط بلا أحد. وهذا اللاأحد هو الشعر نفسه. الشعر الذي يمنح صاحبه ذلك الحزن الغامض والرقّة الجارحة. الشعر الذي يسبّب سوء تفاهمه مع العالم وانفصاله عنه. الشعر الذي نقضي حياتنا في استدراجه إلى حياتنا كي نشعر بانفصالنا عن العالم الميكانيكيّ، والعالم الماديّ، الرديء، ونعيش معه كرعاة له فيما بعد.
ومن جهة أخرى تعتبر هذه القصيدة هي النمط الأقرب لكتابة شيركو في الشعر. فعلى الرغم من شهرته بكتابة القصائد الطويلة، والطويلة جدا، إلا أنّه كان يُقطّعها إلى مقاطع يرتاح إليها أكثر في عزلته عن كلّ شيء ما عدا الشعر. كان نفَسه قصيراً من الداخل، بينما كان يبدو ملحميّاً على الورق.
قصيدة أخرى مثل قصيدة “كابوس″ قد تناسب ذلك الوهم الذي نؤلّفه عن شيركو بيكس عندما يقول:
“أتمدّد
أغطّي ليلي بلحاف
عليه صورة نمر
الليل طويلٌ… والنمر طويل
أتلوى ويتلوى معي
أرى من تحت اللحاف أنيابه مغروزة في عنقي
فينتابني خوف مخطط
أغمض عيني حتى أنام
أجدُ نفسي في سهب
وقد أصبحتُ غزالاً
يبصرني النمر ويُطاردني
أركضُ وأركضُ والنمر ورائي… يقترب
يقتربُ مني حتى تمتزج أنفاسنا
يبعد مني شبراً وفجأة… أنتفضُ
يتصبب مني خوفٌ باردٌ
أزيحُ اللحاف عني
إنه بيتي
أمعن النظر
أرى النمر عند قدميّ
مُتكوراً ومحطّماً”.
ففي هذه القصيدة نعثر على الدراما التي تحيط بكلّ نصوصه تقريبا. القصصيّة الموجودة داخل نصّه تحوّله إلى حكواتيّ في الشعر. الشعر الذي يُعطي الآخر ولا يأخذ منه. الشعر الواضح والبسيط ككلام الأمهات أو الجدّات في حكاياتهنّ الكثيرة والمتوالدة. وهذا بالضبط ما نقصده من اسمه الذي لا أحد يُنسب إليه أو ينتسب إليه. حيث لبيكس أن يُناقض تلك النسبة في أن يحكي الحكايات لأبناء وأحفاد ما عاد يحكي لهم أحد حكايات. هم أبناء جلدته الذين ماتوا في حصّة كردستان العراق من “الأنفال”.
شاعر مقاتل
من زار مكتب الشاعر الكردي العراقيّ الراحل شيركو بيكس ورأى تلك الأبّهة التي كانت تحرس المكان، وتتجوّل داخله، سيعرف أن تلك الأبّهة لم يصنعها التطوّع في القتال من أجل حقوق الأكراد، بقدر ما صنعته وحشة الشعر.
فمن المعروف أن بيكس ولد في عام 1940، أي بعد عشر سنوات من قيام والده “فائق” بقيادة ثورة كرديّة في مدينة “السليمانيّة” للمطالبة بحقوق الكرد في العراق. وستكون هذه الجينة هي الجينة الوراثيّة الثانية التي سيتلقاها بهدوء وامتنان من والده. بينما ستولد الجينة الأولى رويداً رويداً في عروقه وهي كتابة الشعر. فقد كان فائق بيكس شاعراً معروفاً يرتجل قصائده ولا يحفظها كتابة. وذلك الإرث الذي ضاع من إرث والده يبرّر الغزارة التي كتب بها شيركو نفسه.
في أكثر من مرّة سيترك شيركو بيكس أماكنه ليلتحق بالمقاومة الكرديّة في كردستان العراق. لن يهنأ من دمه الأزرق في أوروبا أو آسيا بمجرّد أن يسمع دم أبيه يعضّ أوردته في الراحة. فكان سرعان ما يلتحق بالإذاعة الثوريّة، ومن خلالها يبثّ ذلك الحماس الغامض في أبناء شعبه من سكّان الجبال الذين سيموتون في عشرات المجازر. ليس قربه من حزب جلال الطالباني، رئيس جمهوريّة العراق حاليّاً، سيكون سبب ذلك، بل لأنّه يستحقّ أن يكون راعي تلك الأغاني والأناشيد التي كانت تنتشر هناك من بين مسامات النابالم.
كردستان كردستان
لشدّة ما كتب شيركو عن الكرد وأماكنهم تأسّست كردستان في كتبه قبل أن تستقلّ في أيّ مكان. وهو من الشعراء القلائل الذين لم ينظروا إلى هذه المسألة بعين تحريض الناس على القتال، بل بعين المهزوم الذي لا يقبل الهزيمة.
لم يكتب عن كردستان كمكان داومت الدول على خذلان أهله من خلال نقض كل العهود والاتفاقيّات التي كتبوها بحبر سريع الذوبان. بل عن نسائها الفقيرات المضطهدات. الأمّهات اللواتي ربّين أبناءهنّ بانتظار موتهم الآتي سريعاً. عن الأطفال الذين يتحدّثون سرّاً بلغة ممو وزين. عن الفراشات الملوّنة في تلك الحقول المبرقعة بصخور ذُبح عليها رجال أشدّاء لأنّهم قالوا لا للعبوديّة. ولهذا كان شهداء ذلك المكان كثيرين داخلها وفي المنفى القسريّ عنها. ولذلك كتب هذا المقطع المؤلم عن شهداء أبناء جلدته:
“إذا استطعت أن تعدَّ
أوراق تلك الحديقة
إذا استطعت أن تعدَّ
كل الأسماك الكبيرة والصغيرة
في هذا النهر الذي يجري أمامك
وإذا استطعت أن تعدَّ
الطيور في موسم الهجرة
من الشمال إلى الجنوب
ومن الجنوب إلى الشمال
وقتها أعدك بأنني
سوف أعدُّ شهداء وطني كردستان”.
وكان من سوء حظّ شاعر رقيق كشيركو بيكس أن يعيش زمن “الأنفال” التي أرادت محو ذلك الدم الكرديّ عن وجه هذه الأرض. ولكن كان من حسن حظّ الكرد أن يكون لديهم شاعر مثله، يكتب عن ذلك الجحيم المستمرّ بلغة رقيقة تشبه أغانيهم الحزينة في تلك الجبال:
“إلهي يا إلهي
كم هي قامة شهرتي وأشعاري
(إنّها) أقصرُ من قامة آلام هذه المرأة!!”.
“مقبرة القناديل” كانت القصيدة الطويلة التي كتبها شيركو عن “الأنفال”. وجاءت القصيدة عنيفة في غنائيّتها وحزنها ونارها وحتى في بعض أسطرها التي بدت غريبة عن كتابة بيكس الرقيقة، وهذا مفهوم في محنة الموت الهائل الذي أطبق على سماء آلاف البريئين من الشعب الكرديّ وأرضهم.
ابن الأرض المحروقة
توفي شيركو بيكس في 4/ 8/ 2013 في مشفى في سويسرا بعد صراع مع المرض العضال. وترك ثماني عشرة مجموعة شعريّة، صدر أوّلها في عام 1968 وهو في الثامنة والعشرين من عمره. وفي عام 1971 صدرت مسرحيّته الشعريّة “كاوا الحدّاد”، ثمّ مسرحيّته الشعريّة الثانية والأخيرة “الغزالة” في عام 1976. وترجم رواية “العجوز والبحر” للروائي الأميركي همنغواي من اللغة العربيّة إلى اللغة الكرديّة. وفي الثلاثين من عمره أسّس حركة “روانكه” الأدبيّة والتي ضمّت العديد من الشعراء والروائييّن الكرد.
في عام 1975 أبعدته السلطات عن مسقط رأسه “السليمانيّة”؛ كما فعلت في نفي والده إلى الجنوب العراقيّ، حيث نفته إلى محافظة “الأنبار”، ووضعته هناك تحت الإقامة الجبريّة. وبعد عمله في الثمانينات مع الإعلام الثوري غادر إلى السويد ولم يعد من هناك إلا مع الانتفاضة الكرديّة في عام 1991 حيث انتخب في أوّل برلمان كرديّ كمرشّح مستقل. وأصبح أوّل وزير للثقافة في إقليم كردستان العراق. وليصبح أوّل وزير يقدّم استقالته من منصبه الوزاريّ بسبب ما سمّاه “الخروقات الديمقراطيّة”!.
في منفاه الاختياريّ في السويد سيحصل على جائزة “توخولسكي” الأدبيّة هناك. وهناك في إحدى مستشفيات السويد سيرحل عن هذا العالم، ولكنّ جثمانه سيعود إلى السليمانيّة من جديد. المدينة التي فاز بجائزة الشعر الكرديّ فيها ، ثيرة ميرد، في عام 2011، بعد ست سنوات من فوزه بجائزة عنقاء الذهبيّة العراقيّة.
ويعتبر شيركو بيكس من أكثر الأدباء الكرد الذين ترجمت أعمالهم إلى العربيّة. كما ترجم لبعض اللغات الأجنبيّة. ويعتبر من روّاد قصيدة النثر الكرديّة.
إذا أخذنا من الفن التشكيليّ قسماً ممّا سمّوه بالطبيعة الصامتة. وإذا أخذنا من المسرح التراجيديا والحوارات القصيرة والحادّة. وإذا أخذنا من الكتب المقدّسة تلك المونولوغات للأنبياء الضعفاء. وإذا أخذنا من البشر ذلك الجزء المتعلّق بآلامهم وحكاياتهم وخرافاتهم، وإذا أخذنا من الحكاية جزءها الدراميّ، وإذا مزجنا كلّ ذلك فقد نعثر على العجينة التي عمل عليها شيركو بيكس طوال أكثر من خمسين عاماً في كتابة شعره. الشعر الذي كان يخاف أن يموت ولا يكتبه. الشعر الذي كان يستخدم قلم الرصاص في كتابته كي يشعر من خلال الممحاة بأنّه يقسو على نفسه أوّلاً.
هل نقول إنّ شيركو بيكس كان ابن بيئته، كما يحلو للنقّاد الهاربين من ضوضاء التفكير؟ بل ربّما علينا أن نقول إنّه كان البيئة الكرديّة ذاتها. كان الفراشات والحملان والغزلان والجداول ودجلة والنساء والأطفال والشهداء… في ذهابهم الأبديّ نحو سعادة الآخر.
العرلب اللندنية