قراءات الشتاء حديقة دفء / غادة السمان

إلى يميني في الطائرة المتجهة إلى باريس صبية تطالع كتابا إلكترونيا بالفرنسية على شاشة مضيئة أمسكت بها بحرص. وأنا أعانق كتابا ورقيا للشاعر عبده وازن بعنوان «غرفة أبي» ـ رواية ـ بحوزتي منذ يوم صدورها قبل عام ونيف ولم أتمكن من قراءتها لانشغالي بإنجاز روايتي «يا دمشق وداعا» وإصدارها مؤخرا.
تحرشت بي الصبية ساخرة: أما زلت تطالعين الكتاب الورقي، قلت لها دون أن أكذب: أحب احتضان الكتاب الورقي. لقد ألفته، صادقت ملمسه وأسمع لحروفه صوتا واتقن الاستماع إلى همسه وصراخه.. ولكنني احترم المطالعة أيا كانت.. على ورق «البردي» الفرعوني أو على شاشة مضيئة كمبيوترية كالتي معك.
قالت: ألا تعتقدين ان المطالعة الإلكترونية ستلغي الورقية؟
قلت: ربما.. وربما ستتعايشان كتعايش السينما مع التلفزيون والمسرح.. أما الآن فأنا أستمتع بكتابي.
لم أقل لها إنه لم يعد في بيتي موضع للنوم أو للمشي ولا مقعد فارغ من الكتب لاستقبال ضيف، فالكتب تغطي كل مكان كما هياج النباتات العملاقة في غابة استوائية.. وقد أموت ذات يوم مطمورة بكتبي حين تسقط رفوف الكتب فوق سريري كما حدث لأديب تراثي.

الكتاب الورقي مقاوم جميل

وفوق كل ما تقدم، قد يهديني رفيق أبجدي مثل محمد عبدالله السيف، مكتبة وأفرح بها! وبالأحرى مجموعة كتب من دار نشر جديدة نسبيا هي «منشورات جداول» أسسها برفقة الدكتور يوسف الصمعان وبعض العشاق للكتب مثلهما.
ثمانية كتب من منشورات الدار في مختلف الحقول الإبداعية والفكرية. وفي الوقت الذي تغلق بعض دور النشر أبوابها لتصير إلكترونية يشهر السيف راية الكتاب الورقي وهذا جميل وأنحاز له!
قرأت الشعر من سليمان العيسى (مواليد 1921) في مختارات من قصائده على طول تاريخه الجميل انتقتها زوجته الدكتورة ملكة أبيض بعنوان: «السفر الجميل».. صدر في طباعة فخمة، هذا إلى جانب «قصيدة حب» كتاب عبدالرزاق عبدالواحد الذي ألفناه واشتقنا لقراءته نضراً كعادته.. وللرواية حصة كبيرة: «أحاديث يوم الأحد» لعلي الشوك ـ «القيامة بعد شارعين» (عنوان جذاب لفاروق يوسف)، «متيم الدهر» لحسونة المصباحي.
سرني في كتاب الشاعر سليمان العيسى في باب «ثمالات أخرى» إطلاع القارئ على معلومات عن حياته وأعماله ونثره، وعلى ما ترجم له والكتب الصادرة عنه، وكنت أتمنى لو قرأت ما يماثل ذلك في الكتب الأخرى، فحسونة المصباحي الروائي ترجمت رواياته إلى العديد من اللغات الأجنبية وأصدر كتابا بالألمانية (أو أكثر) قام فيه حسونة (مشكورا) بالتعريف بالعديد من الكاتبات العربيات في دعم جميل للمرأة العربية.
في الحقل الفكري نقرأ «أسطورة عبور الأردن وسقوط أريحا ـ من اخترع هذا التاريخ» لفاضل الربيعي، وكتاب إيمانويل كانط «نقد العقل العملي» تعريب وتقديم ناجي العونلي.

محمد السيف يقص الإهمال الوثائقي

شدّني على نحو خاص كتاب «صخور النفط ورمال السياسة» في طبعته الثالثة.. وهو من تأليف محمد السيف، وجذبتني إليه الدقة العلمية والأمانة الأكاديمية والاحترام للحقيقة الوثائقية وبذل الجهد المنهك للإحاطة بها، وهو ما نكاد نفتقده في عصرنا بالذات وحتى في بعض أطروحات للدكتوراة.
وعلى طول أكثر من 600 صفحة يعرفنا السيف بعبدالله الطريقي (فارس النفط العربي ـ نموذج الملتزم بقضايا أمته ـ أبو الأوبك البترولي الفقير ـ رافع لواء نفط العرب للعرب ـ واحد من أهم عشر شخصيات عالمية) كما لقبته دراسات عنه أوردها السيف وسواها، وبين من كتبها بعض المعروفين في الصحافة والسياسة والفكر أمثال جاسم القطامي وستيفن داغوير وعلي محمد فخرو وعبدالرحمن الراشد وعاطف سليمان وروبرت فيتالس وعبدالرحمن منيف ويوسف شبل وأديب الجادر وعبدالأمير الأنباري وسواهم كثير.
محمد السيف الإيجابي عاطفيا نحو موضوعه) لا ينسى بذكاء وضعه في إطار عين الآخر، ثم ان الكتاب لا يضم سيرة ذاتية لشخص بل أيضا لأوطان عربية في عواصم نفطية وقومية، كما نجد صورة تاريخية لمناخ بيروت الحرية قبل الحرب ونلتقي بالفرسان الإعلاميين والماليين والعقائديين لذلك الزمان.
محمد السيف يعرف مدى ارتباط التاريخ الشخصي للكبار بحركة التاريخ في أوطانهم.. و «يتحلى السيف بروح مرحة في كتابه هذا. شخصيته واضحة لا يسمح للشخصيات الواردة في كتابه ان تلغيه فهو يقول بين الحين والآخر رأيه.. ولا ينحاز إلا للصدق والحق.. كما كتب عبدالله ابراهيم العسكر، ومن جماليات الكتاب الصور الوثائقية الغابرة في ص 543 حتى 581.
إنه كتاب فيه جهد وعلم وأكاديمية صارمة وقلب نابض.

الكتاب الورقي فصيلة منقرضة؟

صادف قراءتي لكتب «جداول» وصول رسالتين لي، الأولى تطالبني بالانضمام إلى مؤسسة حماية «دب الباندا» من الانقراض كما «الدلافين الأسترالية»، والثانية لدعم «ملجأ للكلاب» التي تخلى عنها (أهلها). أحب مخلوقات الله كلها تقريبا من جيراننا في هذا الكوكب، كالكلاب الوفية وكالبوم والسلاحف والقطط وسواها، وأعرف أنه بالنسبة للبعض «خير جليس في الأنام الكلاب» لا الكتاب، ولكن هل تسمحون لي أولا بدعم فصيلة جميلة إنسانية قد تكون على وشك الانقراض اسمها الكتاب الورقي؟