بعد
فخارج الرواية الرسمية التي تربط موته بأتباع الجنرال فرانكو يبدو أن الأمر لم يحسم بعد، ليس لدى أهل غرناطة فقط بل لدى كل محبيه. غير أن صدور كتاب «الحقيقة حول مقتل غارسيا لوركا.. تاريخ عائلة» عن دار النشر الإسبانية» إيبرساف» كشف زوايا مظلمة من أسرار الموت الغامض لحامل الإرث الأندلسي فريديريكو غارسيا لوركا، وعلى نحو خاص الخصومات العائلية الدموية التي كانت تميز عائلته، التي شهدتها ضيعات وادي غرناطة، وانخرط أب لوركا فيها. فضلا عن اتهامه بالمثلية الجنسية. وقد شرعت السلطات الإسبانية في التنقيب عن رفاته. وعمل في الوقت نفسه مجموعة من الأركيولوجيين في البحث عن رفاته في غابة في غرناطة، استنادا إلى تحديد المؤرخ الإسباني ميغيل كاباييرو. وتنطوي هذه العملية على استخدام الرادار لإرسال نبضات من خلال التربة، أملا في العثور على رفاته. وهذا الوضع الملتبس لوفاته يرتبط بمساره الحياتي الحافل، وغنى تجربته الشعرية التي يرجعها لما يسميه بشيطان الشعر والغناء.
وتسعفنا الترجمة الرفيعة التي قدمها خالد الريسوني لأعماله الشعرية الكاملة والصادرة عن منشورات ليتوغراف، في تلمس جوانب كثيرة من سيرة هذا الغرناطي الموشح بدم القصيدة وعنفوانها الأندلسي. فريديريكو جارسيا لوركا بوصفه أحد أنشط أعضاء «جيل27». ولد في الخامس من يونيو/حزيران 1898 في فوينتي باكيروس، وهي قرية صغيرة قريبة من غرناطة، من أب فلاح وأم مدرسة أدخلته إلى عالم المعرفة في سن مبكرة. تلقى دراسته في قريته ثم في الميريا. أما المرحلة الثانوية فتابعها بغرناطة التي كانت أسرته قد انتقلت إليها.
وبعد نجاحه التحق بالجامعة ليدرس الحقوق والأدب، وسيصدر في هذه المرحلة أولى أعماله الأدبية سنة 1918»انطباعات ومشاهد طبيعية»، وستعرف حياة لوركا تحولا كبيرا مند رحيله إلى مدريد والتحاقه بإقامة الطلبة التي كانت تستقبل العديد من الأدباء والفنانين الإسبان أمثال رفائئيل البيرتي وسالفادور دالي ولويس بونويل وبيدرو ساليناس وخوان رامون خمينيث وغيرهم. وسيتأثر بأدباء من أمثال غوستافو أدولفو بيكير وأنتونيو ماتشادو. مما سيساهم في تطوير حسه الفني نحو ما عرف بالحس الغنائي الشعبوي. وفي سنة 1921 عقد صداقة عميقة وقوية مع موسيقار إسبانيا الكبير مانويل دي فايا، الذي تلقى على يديه دروسا في الموسيقى ساعدته على صقل موهبته الموسيقية.
وفي سنة 1920 عرضت اولى مسرحياته «سحر الفراشة اللعين». وبعدها مسرحية «ماريانا بينيدا» لتتوإلى أعماله المسرحية» الإسكندنافية المدهشة، وعمدة مسرحياته الموسومة بعرس الدم، ويرما، ودونيار وثيطا، العانس أو لغة الزهور، وبيت بيرناردا ألبا. فذاع صيته وأصبح مرحبا به في الملتقيات المسرحية والأدبية، وهو ما يفسر المحاضرة التي قدمها عن ديوانه «قصيدة الغناء الغجري» بمركز غرناطة. وسيتمكن بعدها من السفر إلى الولايات المتحدة وعلى نحو خاص نحو جامعة كولمبيا.
وسيتمكن خلال هذه الإقامة من اكتشاف الحياة الخفية لنيويورك ولأحياء السود، وتمكن من رصد اختلالات الحياة وتحولاتها في مدينة فقدت ذاكرتها بفعل حضارة الإسمنت. فقد كان الانتقال من روابي النهر بغرناطة نحو الشوارع المسفلتة، ونحو الأحياء السيزيفية أمرا قاسيا على حياته ذات النزعة العاطفية. وهو الأمر الذي يمكن تلمسه بشكل واضح في ديوان «شاعر في نيويورك» الذي كتب ما بين سنة 1929 و1930 في مدينة نيويورك التي عاش فيها لوركا طالبا بجامعة كولومبيا، ومنها قصائد العزلة في جامعة كولومبيا، وفاصل وحكايات الأصدقاء الثلاثة وحلقتهم، والزنوج، وملك هارلم، وشوارع وأحلام، ومشهد الحشد الذي يتقيأ، وأعياد الميلاد في الهدسون، وبانوراما عمياء لنيويورك.
وبعدها سافر لوركا نحو كوبا ومنها عاد إلى إسبانيا. ليعمل سنة 1932 على تجديد خطوط أسفاره من خلال سفره نحو البرازيل، الأوروغواي، الأرجنتين التي كانت مفتونة بمسرحياته وعلى نحو خاص مسرحية «عرس الدم» التي عرضت بحضوره في مسارح بوينس آيريس. وسيتمكن من تشييد علاقة مثمرة مع شاعر تشيلي الكبير بابلو نيرودا المتوج بجائزة نوبل للآداب.
وقد كتب صاحب أشعار تشيلي الكريمة في مذكراته عن هذه الصداقة العميقة التي جمعته بلوركا في محكياته بـ«إسبانيا في القلب» التي أشاد فيها بخصال لوركا وعمق تجربته الإبداعية. فكلاهما ينتميان إلى بلدين يشتركان في ذاكرة اللغة الإسبانية، فضلا عن الموقف الواضح لنيرودا من النظام الملكي ومناصرته للثوريين. وهذا التواصل المثمر والعميق بين شاعرين كبيرين، يفسر الغضب الكبير الذي انتاب بابلو نيرودا، حين علم باغتيال صديقه الأعز غارسيا لوركا. فتمنى نيرودا لو ينتزع قلبه ويهديه للوركا. ووصفه في مرثيته الشهيرة بصاحب الصوت البرتقالي الحزين مثل الفراشة، لأنه كان رجلا قويا وحرا مثل البرق.
كان لوركا مولعا بطيبة غرناطة وببهاء الطبيعة والحقول على نحو ما نجد في قصيدة «بلاد صغيرة للأنهار الثلاثة» وهي مهداة إلى سلفادور كينتيرو. وهي من الأعمال الشعرية المختارة لشاعر غرناطة التي ساهم المترجم خالد الريسوني في عبورها من لغة سيرفانتيس إلى لغة الضاد.
نقرأ من هذا العمل الذي يضم شعرية المأساوي عند فريديريكو غارسيا لوركا، وقصيدة الغناء العميق، والرومانثيرو الغجري، وشاعر في نيويورك، وديوان التماريت، وبكائية لأجل إغناثيو صانشيث ميخياس.» ينساب نهر الوادي الكبير/بين أشجار برتقال وزيتون./وينحدر نهرا من غرناطة/من الثلج على القمح/أواه أيها الحب الذي مضى ولم يعد لنهر الوادي الكبير لحية حمراء قانية/ونهرا غرناطة/أحدهما بكاء والآخر من دماء. أواه أيها الحب/الذي رحل عبر الهواء!» ص21
ان فريديريكو غارسيا منصتا جيدا لإيقاع القيثارة ولنبض أوتارها، ولضوء الفجر، وللشروق العظيم في الأندلس، ولرقصات الغجر التي جعلته قريبا من المياه الصافية، ومن ظلال أشجار الزيتون، وجعلته يبصرالرماة العميان مثل الحب. ويبصر اخضرار الليل في الطريق الطويلة الحمراء باحثا عن الضوء في الليالي الحالكة، وباحثا عن سحر الغجري في قصائد ذات قالب السونيت ليحتفي بالحب والحياة وبالأرض وبالموسيقى وبالثورة ضد فاشية فرانكو. ولعل ذلك هو ما جعله أيقونة جيل 27 الإسباني.
وهو ما يبرر قول المترجم خالد الريسوني في المؤلف نفسه «والأهم هو أن لوركا حظي دوما باحترام وتقدير شعراء جيله والأجيال اللاحقة عليه، أي ما بعد الحرب الأهلية وبالنسبة للنقد والنقاد فقد صنفوه ضمن كوكبة الشعراء الملاعيين، فهو وريث بودلير والرمزيين، وقد مارس لوركا تأثيره القوي بين الشعراء الملاعيين الإسبان» ص17
كان لوركا منفتحا على الحياة بكل عنفوانها، وكان يسعى إلى الانتشاء بها في مسرحياته وقصائده التي جعلته يعثر على الكلمات تحت الماء، وجعلته في نيويورك يترك شعره ينمو مع الحيوانات الصغيرة ذات الرؤوس المحطمة وجعلته يدرك أن الزنوج يعشقون الزرقة الموحشة وكيف يقتلع ملك هارم بملعقة خشبية عيون التماسيح، وفي الوقت نفسه يتحسر على ابنه العملاق «خوان» الذي تاه عبر الأقواس في قداس الأموات. وكلما ابتعد لوركا عن أرضه، كانت قصائده حاملة لاغتراب قاس على نحو ما نجد في قصيدة مدينة بلا نوم (ليلية جسر بروكلين) حيث الحياة تتخلى طواعية عن ثوب الحلم وتمسك بالأقداح الزائفة.
وهي الرؤية نفسها التي ترجمتها قصيدته «بانوراما عمياء لنيويورك» المليئة بالدخان وبالبذلات المهجورة. وعبر هذه الرؤى، وعبر أغنياته الغجرية تمكن فريديريكو غارسيا لوركا من أن يجد مدخلا نحو الموت الكبير والخفي حتى في أشد غزلياته حيث يقول» أبدا، أبدا: يا بستان احتضاري/ جسدك الهارب إلى الأبد/دم شرايينك في فمي/ وفمك وقد غدا بلا نور لأجل موتي.
وهذا النسق الهائل من الترميز والاستعارات يكشف سيرة هذا الغجري الذي عاش ما بين جبل الموت، وجبل العشق الاندلسي للأرض والحياة. وكانت قصائده على النحو الذي تلمسناه في الأعمال الشعرية المختارة التي ترجمها خالد الريسوني. بيد أن الاهتمام بأشعار وأهواء لوركا لم يقتصر على الشعرية الإسبانية والإيبيرية، بل امتد عميقا في تربة الشعرية العربية وقد خصه محمود درويش بقصيدة عنونها بـ»لوركا» كانت بمثابة سيرة شعرية غيرية تعيد استحضار مقتل لوركا « عفو زهر الدم يا لوركا وشمس في يديك/وصليب يرتدي نار قصيدة/أجمل الفرسان في الليل يحجون إليك بشهيد وشهيدة».
ولقد امتد تأثير لوركا نحو شعراء كثر وعلى نحو خاص بدر شاكر السياب، وعبد الوهاب البياتي وسعدي يوسف. لكن موته شكل لدى جل الشعراء موضوعا للتأويل الشعري وللتمجيد من لدن عشاق الدراما لابن غرناطة البار وعاشق أرضها، والحامل لإرثها الأندلسي. يستدعي إعادة البحث والتقصي على ضوء الأبحاث الجديدة، سواء التي قدمت بإسبانيا أو التي انجزت بعدد من الجامعات المتخصصة. فهل كان يعرف لوركا قاتليه؟ وهل فعلا قتله حرس فرانكو، أم أنه تحمل لوحده ثمن الخصومات العائلية؟ يقول فيديريكو غارسيا لوركا في ما يشبه النبوءة في قصيدته المعنونة بـ”عويل الموت” فوق السماء الحالكة/بروق صفراء/ أتيت إلى هذا العالم بعينين/وسوف أرحل عنه بدونهما. ص 61. هذا الفقدان سيحرم عاشق الغجر من رؤية ضوء القمر، وأنهار غرناطة، وأغصان الورود التي يحبها. لأنه كان يدرك حتمية موته المؤجل الذي عبر عنه في قصيدته نبوءة موتي بقوله: «عرفت أني قتيل/فتشوا المقاهي والمقابر والكنائس/فتحوا البراميل والخزائن/سرقوا ثلاثة هياكل عظمية لينتزعوا أسنانها الذهبية/ولم يعثروا عليَ/ألم يعثروا عليّ؟/نعم لم يعثروا عليّ»
عبدالسلام دخان /عن القدس العربي