ربما الفلسفةُ
لم يكن «الأصل المفقود» للفكرة، وللفكر، بياضاً مشاعيَّاً يُملأُ باقتدار الفكرة والفكر على الرعي فيه. جرى نَسْخُ البياض من الموضع الأصل. المفكرون، والنُّظَّار، أقاموا سعيهم في ترويض التدوين من الغايات علوماً منطقاً، وعلوماً تأويلاً، وعلوماً تسليماً، على نقل الخطأ عن «بياضه» إلى معلولاتِ فقه اللغة، وفقه الحدود، وفقه «الأدريَّات» الأزلية والأبدية.
أخاف أن لاجراءة لي، بهذا التمهيد الملتبس حتى إشعارٍ في التوضيح، على المضيِّ بعيداً في تصنُّع قراءةٍ خطأ للمعاني، عن قصد، استحصل بها معاني تُعْتَمد، ويخيفني أن أنحدر بفكرتي عن قراءةٍ خطأٍ تقود إلى معنى مُبتَكَر. لكنها مغامرة اللسان منذ نشأةِ الصرخة الأولى، والأبجديةِ الصمتِ الأولى، والفكرةِ الأولى مترعرعةً على عزيف الريح، وهدير البحر: «إننا نستطيع تغيير المعاني من اشتقاقٍ مشوَّه للكلمة»، يقول بيير بورديو نقلاً عن هويزنغا، ونستطيع اعتبار الأمر برمَّته «لعباً بجديَّة» كما صكَّ العبارةَ أفلاطون، فأقامَ لها منزلةً في قيام الجناس العقلي للمتعارضات على قُربٍ من «المنزلة بين المنزلتين» لدى «نُحاة» المِلل في الفُتيا.
أيمكن اللعب أبعد من الهاوية ذاتها، أو دفع الفكرة إلى الانتحار؟ ماجدوى التصريح بها تدويناً؟ ماقاله هويزنغا عن «اشتقاق مشوَّه» ينبسط بتمام ظاهره على «باطنٍ» كثيرٍ من التاريخ، ومن اللغة: يُلْزَمُ التاريخُ بالوقائع التي نَحَرتْ وقائعَ، أو سلبتها ثقةَ الزمن، أو أخفتها تحت الوسادة؛ وتُلْزَمُ اللغةُ وَفْرةً من لسان الغالب، سلوكاً بها إلى سَنن الأخلاق، وشرع المعاني. يقول أرسطو في «الفيزياء»: «إن افترضنا الوجودَ، بما هو موجود، يختلط ويمتزج مع البياض، كانت ماهية البياض مباينةً لماهية الوجود». البياضُ قيمةٌ لاتُضاف هنا مزْجاً إلاَّ بخاصيَّةِ المُبايَنةِ، لاالتماثل. البياض فراغ، والوجود مَلاءٌ. لكنَّ الوجود ذاته قائم في حيِّزٍ مَلاءٍ بياضٍ هو الأصل؛ هو الهيولى الفوضى القابلة إمكاناً لنشأة النظام أجساداً، وأرواحاً، وأفكاراً طبائعَ أيضاً. الإغريق قالوا أصلاً بـ»قِدَم مادة العالم، وحدوث نظامه»، أي: لا خَلْق من عدم. مادةٌ أصلٌ لا نعرف كيف استوفت شروطَ التشاكُل فأُحْدِث النظامُ. هكذا يعود أرسطو، على نحوٍ مفارِقٍ في «تباين البياض»، إلى نعت الوجود برمَّته «أنه أبيض». ثم يعاند: «لقد سبق أن قلنا إن البياض غير موجود»، «وإن كان البياض يدل على الوجود الحقيقي، وجب أن نعترف أن الموجود يعبِّر عن معانٍ شتى».
«التعدُّد»، في الرسم الفلسفي من لوح أرسطو، الذي يجيز البياضَ «افتراضاً»، هو السلوك بالكثرة إلى تفارقات في المعاني. لكنْ يثبتُ معنىً وينحلُّ آخر. يثبتُ معنىً بمصادفة القوة متمثِّلاً المعنى المنحلَّ في كيانه على مجرىً مغاير. نحن لانعرف «مجموع» المعنى الواحد، الراسي باتفاق المصالح على معناه. باسكال يقول: «الكل هو أكثر من مجموع الأجزاء». أهو إلماحٌ إلى فائضٍ يجري انتقاصُه من المجموع المتوافق ضرورةً على عدد معين من أجزائه؟ كلام باسكال افتراضٌ للزيادة في الزيادة. واحدٌ أكثر سعة من واحد. (ربما الحروب وحدها كلياتٌ أكثر من مجموع أجزائها). ذلك منطقٌ في ترتيب المجازفات وفق قواعد الضرورة كلاماً، مع تدبير البرهان. فـ»الله»، وفق ابن عربي مثلاً، «هو مجموع أسمائه»، ليس زائداً عليها. إنه نقصان يملأه باسكال. و»الربُّ»، عند ابن عربي في تفسير هنري كوربان لخطابه، هو اسم من أسماء الله مفرداً. لقدً أُجيز، إذاً، جمع المفرد، وإفراد الجمع،بتحصيلِ أصلٍ أول للتخصيص قد يكون مفقوداً من مرتبة المعاني، بُني على أثرٍ متخيَّلٍ منه مفردٍ وجمعٍ.
عند سبينوزا، في كتاب جيل دولوز «مشكلة التعبير»، «لكلام الله معنيان مختلفان جداً: كلام تعبيري لايحتاج إلى كلمات، ولا إلى علامات؛ وكلامٌ «ضاغطٌ»، آمرٌ، يعمل بالعلامة الوصفية». ماالكلام الذي بلا كلمات؟ شبح الأصل المفقود يلوِّح بالكلمات المفقودة. كلامٌ لا تحوجه كلماتٌ، أو علامات، كلامٌ بياضٌ «يعبر عن معان شتىٍ»، في زعمنا افتراضاً مع أرسطو بوجود بياضٍ غير موجود. المعاني الشتَّى مفترضةٌ هنا، متخيَّلةٌ وَهْماً. هي غير موجودة كالبياض غير الموجود، لكنها حديثٌ يصير سياقاً من إبرام الفلسفة صفقةً مع موضوعها المأزق. فالواحد مثلاً، ليس عدداً عند صاحب «الفصل في المِلل والأهواء والنِّحل» ابن حزم الظواهري. إنه الأصلُ المفقودُ تبنى عليه إضافةُ رقمٍ تالٍ لاستعادته أصلاً. لكنَّ الأرقام، برمتها، قائمة على مفقودات تتحصَّل في امتدادها اللانهائي؛ في توسُّع الرقم على نفسه حتى تقويضها في مستحيلٍ من العبور بها إلى أيِّ شيءٍ. الرقم، في حاصله اللانهائي، يغدو مفقوداً.
أنعرف شيئاً عن انتحار الرقم في لانهائيتِهِ ـ أصلِهِ المفقود مُذْ نشأ تجريداً من صِفْرِه اللانهائي؟ كل ذلك احتمالٌ من ترتيب المجازفات وفقاً لقواعد «الضرورة العقلية». لقد جاء في القرآن (سورة النساء): «.. ورُسُلاً قد قصصنا عليك من قبل، ورُسلاً لم نقصص عليك». ذلك احتمال، بل قطْعٌ بوجود أنبياء في منطقة «البياض» من العلم بهم. بياض لامدوَّنٌ يُبنى عليه عِلْمٌ بوجود أنبياءَ بياضٍ في «علْم البياض» بهم هو علْمُنا، الذي لم يستوفِه الله، بل أبقاه في غيبةٍ من «البياض الغيب» ـ الأصل. نعلم بوجود أنبياء في قصص الأنبياء، ونعلم بمن لم نعلم رسالاتهم بخبرٍ أبقاه الله كتماناً لن يقصصه، تماماً كالروح نلهج بها قولاً، لكن لانعلمها مُذ هي ما لن نُفوَّضَ ولايةً في علمها: (يسألونك عن الروح، قُل هي من أمر ربي).
مفقودات ليست مفقودات. شيءٌ منها معصومٌ عن الإنباء والإستنباء، أيْ الإقتدار على كشف الماء في أرضٍ بور. أصولٌ انزاحت فتولت أصولٌ مضافة ترتيبَ التصديق. عند نيتشة لمسٌ على ما أظنها المعاني كمفقوداتٍ، أو في غيبةٍ: «ألا يكتب (الفيلسوف) الكتبَ لإخفاء مايضمره؟» ـ يقول. المقول كله هنا ظاهرُ الباطن الذي لن يُصرَّح به. المعاني الباطنُ المفقودة لأنها لم تُقَل، أو المحجوبة في غيبةٍ، هي الأصل. إنها كاختفاء الأئمة في معتقداتٍ، وبقاءِ علاماتهم في ماينطق به ذوي الولاية تكليفاً: الوليُّ، هنا، لسان الأصل المفقود.
جيل دولوز ينحو إلى متعلَّقٍ قد أسميه المعاني كمفقودات نفسانية في التعبير. لا أدري جسامة ما أستعيره من يقين الفلسفة وحقدها البارد، ووحدتها القاسية. لكنها الممكناتُ: «علينا أن نكون مزدوجيْ اللسان حتى داخل اللسان الواحد. علينا امتلاك لسانٍ هامشيٍّ داخل لساننا» ـ يقول دولوز. «إزدواجٌ» يعني اختلاطَ أكثر من أصل؛ يعني البناء على مفقود يُستحضر ليتمَّ به اللسان الواحد؛ ليتكافلَ المفقود والموجود. «علينا» ـ يقول دولوز. لم يجزم حدوث النقلة إلى «مزدوج». ويكرر «علينا» في جملته الثانية عن «امتلاك لسان هامشي»، أي المنزاح عن أصل يمكن تدبيرُ قيامٍ به إلى تكاملٍ في التعبير. «الهامشي»، وممكنات «الإزدواج» من تصاريف النفسانية، التي أَسْكنت جزءاً من ضمائر المعاني مراتبَ التعطيل. هي مفقودات معطَّلة إذاً ـ أصولٌ بذواتها معطَّلة. ليس الهامشي جزءاً، بل هو كلٌّ، انحجابُه بياضٌ لايُصرف. غاستون باشلار يشير، بخفاء الخطة، إلى مفقودٍ غير مصرَّح به بعدُ: «فراغ الصفحة الذي يدافع عن البياض». لايُلمسُ إيحاءٌ بمفقودٍ هنا، لكنَّ الفراغ «هيولى» في التوصيف، والهيولى فوضى في الحكم النظري، لأنها ما لم يتشكل بعد، ولم يتَّصف بخصائص. أي هي «اللانظام». فهل يستوي قول باشلار، في تصريفي لاستحقاق المفقود، على معنى مدافعة الفوضى ـ الفراغ عن البياض الفراغ، «اللاموجود» عند أرسطو؟ هما أصلان في الأرجح، أقاما فكرةً من نقائض متعيِّناتهما ـ متعيِّناتِ الهيولى والبياض.
هل المفقود، بخبطةٍ من يد اللاأدريَّة على المنضدة، هو «المُرشد اللامرئي» للأفكار؟ دولوز يقول شيئاً من افتراضات البلاغة أسوقه بنصه: «الكتب الجميلة مكتوبة بنوع من اللسان الأجنبي»، أي اللسان الذي ليس أصلَ المكتوب. هذا اللسان هو الذي يقوم بـ»جمال» مكتوبهِ. «الآخَرية»، التي هي «الأجنبي»، أصلٌ لكن ليس مفقوداً في تدليل دولوز، بل هو من إعراب «المُضمَر». فإنِ استُحضِر ماهيةً للكتابة، بترجمةٍ من ذوق العقل (وليس نقل لغة إلى لغة) وُصِمَت الكتابةُ بـ»جمالٍ». لمسةٌ قريبة، لكنها ليست الضمير الغائب لفكرةٍ مَّا عن ذاتها ـ أيْ عن شرع صوابها. إنها من «الاحتمالات»، مادام عصيًّا على كاتبٍ أن يكتب موحىً من «أجنبيٍّ» فيه. أو ربما هو أجنبيٌّ قطْعاً، فإنْ لم يصرف فكرَه من وحي الأجنبي (الأصل) فيه، كان تعبيره ناقصَ الجمال، أو معدومَه.
فلأَقُل إن «الأجنبي»، في خاطرة دولوز، هو «المرشد» إلى كمال النص. أجنبيٌّ «لامرئيٌّ»، أعيانُه المرموزاتُ تظهر في النص عن يد الكاتب كظهور «العلم الكامل» في الولي عن يد مرشده الغائب «اللامرئي». كان متكلمون من متصوِّفة فارس ينعتون الحلاَّج بـ»المرشد اللامرئي» لفريد الدين العطار (صاحب «منطق الطير»). ويذهب كوربان إلى أن ابن عربي، نفسه، يرى لكل إنسان «مرشداً لامرئيًّا».
«لامرئيٌّ» مفقودٌ. أصلٌ مفقود تُعقد عليه بيعةٌ من أمهات الأصول المحدثة استحصالاً لليقين، كأن يكون شيءٌ مَّا شيئاً آخر لم يخطر ببال أحد. فقد سأل علي ابن أبي طالب يهودياً (عن سعيد بن المسيب): «أين جهنم؟ فردَّ: هي في البحر». ربما. تقول فرقة من المعتزلة، نقلاً عن «مقالات الإسلاميين» للأشعري: «إن مع قراءة القارئ لكلام غيره، وكلامِ نَفْسِه، كلاماً غيرَهُما». هناك «أجنبي» آخر، أو واحد من الأهل، جالس في كل كلام نقوله، أو ننقله عن قائل، أو نقرؤه. «مزدوج» دولوز هو هنا. الواحدُ مزدوَجُ نَفْسه ـ هو مِنْ نَفْسه ومن «آخرَ» فيه. جواز هذا كُله ممكنٌ باحتمالٍ من سندٍ «غائب»، أو مرشدٍ من «المعنى اللامرئي».
لقد حسم النبي محمد أمرَ علوم اليقين وَحْياً من بعده بقوله: «لم يبقَ إلاَّ المُبشِّرات»، ويعني بذلك «الرؤيا». والرؤى فيها وحيٌ من المحتَمَل الممكن على قدْر مقبولها. «المبشرات» تحصيلٌ من وحيٍٍ مفقود، كإقامة معنى على التباس في قراءة الأصل، أو استشعاره، أو القياس على خطأ في القياس. يقولُ أرسطو عن أمبيدوكليوس: «يُعاقِبُ السكون». والقصد أنه يجعل السكون متعاقباً. فماذا لو قُرئت التباساً على أنها المُعاقبةُ والجزاء؟ شخص يعاقب السكون كمعاقبة القانون للصِّ. كانت جملة أمبيدوكليوس غدت من مجريات القياس في العقاب «الشعري»، أو الغيبي أيضاً (الآلهة تعاقب السكونَ بسجنه).
يُبنى على كل مفقود حنينُه إلى مفقوده. يبنى على كل فكرة حنينُها إلى مفقودها. في كل معتقدٍ فردوسُه المفقودة ينحو إلى اكتناهها بقياسٍ من لذائذ الأحاسيس، أو لذائذ الروح المتوهَّمة افتراضاً. يأخذ البشرُ الموتى معهم إلى القبور أطعمة في الجرار الفخار، أو الآنية الحجر، بتخمين الجهة «المفقودة» للموت على معلومٍ حاصل، أو يأخذون في خزائن خيالهم صورَ اللذائذ الأرضية لملاقاة المفقود. نكوصٌ خوفٌ مِنْ فَقْدِ لذائذ استُذيْقت يغدو سبيلاً إلى خيالٍ في «علْم المفقود»، فماذا عن الأفكار التي أزعم أنها أصل مفقود؟ إنها ليست لذائذ تستعاد بالمعتقَدات، وأمل المعتقدات في قيامةٍ للذائذ على الجهة الأخرى من الحياة. أصولها مفقودة لم تتحصَّل خيالاً إلاَّ في «حلمِ يقظة» الفكرة.
إنَّ لها أصولاً مفقودة ككتب مِلَلٍ غنوصية بَنَتْ تقديرها للحياة، وللسلوك بالأخلاق، من نصٍّ لم يقم به نصٌّ قط، لكنه «أصلٌ مفقود». فَلْنَبْنِ الأمرَ على هذا النحو مَثَلاً موثوقاً: لقد ضاعت الأشكال الأصل للديناصورات، فاستعاد العلماء بقياس «الفَراغ الواجب» (كالوجود الواجب فلسفةً) ملأوه حول الهياكل العظام وفق نِسَب محسوبة. هكذا ظهرت الديناصورات، ثانيةً، في متاحف الطبيعة مجسَّمةً على نحوٍ لايشك أحد بمطابقتها أصولَ جرومها. وكذلك استعادَ علماءُ الجسوم والتجسيم الهيئاتِ الأصلَ لرؤوس موتى مدينة بومبي المتحجرين في أرمدة بركان فيزوف، قبل ألفي عام، مجسَّمةً كأنها لأحياء من أيامنا، بكل تفصيل فيها، وملمح، وأضافوا إلى المجسماتِ الرؤوسِ ألواناً للبشرات على تقديرٍ وافر السند. أشكال ديناصورات، ورؤوس بشر مفقودة التصاوير، أُعيد تصميم أبعادها بالرسم العلمي حول العظامِ الآثار. فماذا لو رسمنا خطوطاً خيالاً حول بُنى الفكرات عند هيغل، مثلاً، في «المنطق الكبير»؟ أنستحصل أصولاً مفقودة بتتبع نشآت كل فكرة في تاريخها؟ عَمَلَ علماءُ «مابعد الموت» على رسم الفراديس الإلهية بخطوط من تصاميم الحسيِّ الشهوي، والتخيُّل الجذاب لـ»قوانين» رياضية في هندسة الأرواح.
لقد خطر لي أن أُبرم تعديلاً طفيفاً على بوح القيصر الشقي: «حتى أنت، يابروتُس؟»، كما أذاقَنَاه شِكسبير، وتواتر مثلاً كشقيقه: «أن تكون أو لا تكون». سمعتُ قيصرَ هامساً في حرقة: «لماذا لم تفعلها قبلاً، يابروتس؟». قيصر لم يكن قط في موضعِ اختصاصِ التدقيق في ولاءِ أصدقائه، وغدر أعدائه. هو اللاوفاء لذاته، والغدر بها. بروتس معذور. بروتس مُطالب باعتذارٍ على تأخره في تنفيذ غدره.
أأُعذر على هذا التحوير؟ لِمَ لا؟ المتخيَّلات وحدها أسانيدُ المتخيلات، كالتسليم دِيناً بوجود الجن. وللأمور كلها، في شأن المخاطبات الظاهرة والباطنة، برهانٌ عقليٌّ، وثانٍ قلبيٌّ، وثالثٌ قياسٌ على الظواهر الفلكية كالكسوف والخسوف نراها من حالات النفس في مظاهر الجسد. وثمت برهانٌ رابع أستحضِرُه على حسمٍ معقول في خصائص شكِّي أنَّ الأفكار لم تقم إلاَّ على أصول مفقودة.
إنني أستعير نظْماً رقيقاً من الإعراب في مآل «لا»، التي هي على أربعةٍ معانٍ: نافية للجنس؛ تعمل عمل ليس؛ نافية للعطف، وزائدة. هذه «الزائدة» يجري إلحاقها بالقَسَم في القرآن مراراً: «فلا أُقْسِمُ»، أيْ أقسمُ (وهو ما لا يستعمله العرب في أيامنا). فهل «الزائد»، وهو ما تكلم به أصلُ العربية، مُلْحَقاً بالقَسَمِ الجزمِ، من أصول كل ضروريٍّ؟ إنْ تجاورَ متخالفان بتوافقٍ لانزاع فيه، كحال «لا» متعدِّدةٍ في واحدها الذي ليس رقماً، فلهما، قطْعاً، الأصل ذاته ـ الأصل المفقود. فما مفقود «لا» الأصل؟ تقول «المدرسة التأملية» في الفلسفة: «التفكير يعني قول: لا»، فأيَّها يعنون؟ النافية للجنس مترجمةً إلى خاطرٍ «أجنبيٍّ» من مفترضات دولوز، أم «المزدوجة» المضاعفة بمعانيها الأربعة؟ إنني أحمِّلُ «المدرسة التأملية» تبعة ترجمة «لا» إلى أصل عربي مفقود. وسأدعي أن كل فكرة هي في محل «لا» زائدةٍ يجري بها «قَسَمُ» الأصل المفقود، تأكيداً على أن الأصلَ مفقودٌ.
أأنا سائر في أساطير «اللعب بجديَّة» بحسب أفلاطون؟ كتبُ المِلَل الغنوصية، في الشرق الجبليِّ، «كتبٌ محتجبة» يقول بها أركانُ المعتقدِ من غير نصٍّ. يَعْزونها إلى «المفقود». كتبٌ مفقودة، أكثر سحراً بمفقودها، ألقت خلفها نظائرَ علاماتٍ من علامات الباطن، وتوارت في العقل؛ في طبقته التي تصنع كلَّ حجابٍ في أكثر الواقعيات أسطوريةً؛ بل الواقعيات المُخْلصة لنظامها الأسطوري. هي مفقوداتٌ سحرٌ، أو كما تقول مسكوكةٌ من مسكوكات أهل الصين الحُوْصِ العيونِ: «ذلك المشي الذي لانعرفه».
«إذا صارت النفوسُ ماءً ماتت»، يقول هيراكليتُس. ربما إنْ كان الماءُ «أصلَ الموت» في نفْسه الثانيةِ ـ النفس المفقودة. قولٌ سيُذعرُ باشلار بالتأكيد، في ذهاب زعمه إلى أقصى احتمالٍ من استدراجاته للماء إلى «عِلْم»، كمصطلحاته الكثر في علوم «اللاعلم» الشاعرية. يقول: «كل ألوهية بنائيةٍ هي ألوهية الماء العذب». لقد أقصى الأوقيانوسَ الأبَ المالحَ العقل في أصل النشأة. لابأس. لم يقترب من الأصل المفقود كزعمي أنَّ الصحراء ذاكرةُ المائيِّ. لكنها رياضياتُ الفكرة تحمِّل أرقامَها تبعات الوقوف على الهاوية قبل الوصول إلى يقينٍ «قَلِقٍ» بعض الشيء، في الذي يتأوَّله باشلار نفسه من «المفقودات»: «في ماذا تُعدُّ الحقيقة خطأً مصحَّحاً؛ وفي ماذا تُعدُّ ُكلُّ معرفة تصحيحاً؟». وأنا سأضع عدسةً أمامَ المُقْتَبَس الصغير؛ عدسةً مقعَّرة تنقلب فيها الصورة: في ماذا يُعد الخطأُ حقيقة مصحَّحة، وفي ماذا يُعدُّ كلُّ تصحيح معرفةً؟ إنني أُلزم الفكرةَ قياماً في صواب مفقودها: الحقيقة التي لانعرفها، والمعرفة التي قد تكون عقاباً، كـ»العقاب الذي هو فنُّ الآثار» عند فوكو. بل المعرفة «التي بلا مرجعيات»، مثل «الإنسان بلا مرجعيات»، على لسان نصٍّ من فوكو أيضاً.
تَلزمني طفرةٌ لأضع صوابَ فكرة في خطأِ أصلها المفقود. تَلزمني طفرة من قيام العقل عند النّّظَّام (المتكلم المعتزلي) بتأثيث أحواله المنفصلة، والمتقطعة في صيرورتها، أيْ «جواز المرور من مكان إلى مكان من غير عبور مكانٍ وسطٍ بينهما»، والوسط «المفقود» هنا هو البرهان «الطبيعي» على الوسيط الواجب وجوداً، الذي لايجده نِظام «عِلْم المفقود»، و»علم نفس المفقود»، على هدى المصطلحات الذاتية. لقد حاول آخرون مثلي، عدا النَّظَّام في «طفرته»، تعليلَ مايعسر تعليلُه من سياق الإقناع. «الفرقة المعدومية» الإسلامية خاضت في «المعدوم» (من هنا نَسَبُ اسمها) خوضاً بأكثر أوصاف الموجودات استعارةً. «المعدوم» لايوصف عادة لأنه، في بساطة، معدومٌ، باطلُ التصوُّر، معطَّلُ القياس. لكنَّ الفرقة أَلزمت نفْسَها أصلاً مفقوداً للمعدوم هو «الموجود» الموصوف. وعلى نحوٍ معكوس من هذا ذهب «المعمَّرية» (تُنسب إلى معمر السلمي) إلى القول إن الإنسان معنىً، أو جوهر غيرُ الجسد، وألزموه أوصافاً هي واجبةٌ في الله، كالقُدرة، والحكمة، والاختيار، وعدم حصره بمكان وزمان. سماهم مؤرخو المتكلمين باسم «أصحاب المعاني» لاتصافهم بخوضها على التخصيص والحصر، كما ذكر الشهرستاني في «المِلَلِ والنِّحل». لكن: لِمَ لا إذا أوجَبْنا تحفُّظ أبيقورس عن «تدخل الآلهة في شأن الكون وفي شأن الإنسان»؟. سيمدُّنا الروائي دوس باسوس بسندٍ أيضاً: «لسنا آلاتٍ، ولامجانين. نحن أسوأ من ذلك: نحن أحرار».
أأسمع سقوطاً في فكرتي بهذا التعليل، أم سقوطاً منها؟ كلُّ سقوطٍ سقوطٌ إلاَّ الشلال: سقوطُه مجدُه. نعم. شهيٌّ مرأى الماء مترنِّحاً يراودُك أن تكون في تدفاقه بين ضفتي نهر. شهيٌّ نبوغُ الشلاَّل في انسكابه. لكن مزعجٌ أن ننام قربهما: هذه هي فكرتي، أقْرَب إلى حديث جان ـ ماري بيلت (اللغات السرية في الطبيعة) عن محاولات علماء البيئة العثور على «الحواس المنسية». هُمْ أيضاً في بحثٍ عن «أصل مفقود». لكنَّ وضع فكرة «محتَمَلة» إلى جوار أختٍ لها «مفترضة»، قد ينشئ اجتماعُهما جناساً في الخيال كيقين المُسْتَنْبِتِيْنَ الزُّرَّاعِ، في المصدر ذكرتُه آنفاً، أن التفَّاح يُسرِّع نضوج الموز إذا جاوره.
الخوض في «الأصل المفقود» قد يبدو فكرةً جريحة، وجذابة أيضاً على نقصان السَّند، بل الاعتراف بمعدوميَّته. لا بأس. الأشجار الجريحة، لسببٍ مَّا من بَتْرٍ، أو قضمِ حيوان، في المصدر ذكرتُه آنفاً، ترسل بوساطة غار الأتيلين، رسائل لتنبيه الأشجار غير الجريحة بعدُ. وربما محاولتي اختبارٌ في ذاتها برسائل منها إلى التنبيه. وأنا، في الأرجح، لم أصل إلى شيء، مُذْ كان قصدي أن الأصول المفقودة هي «هناك»، حتى قبل أن يتفكر الإنسان الأول إلاَّ في ذعره من أن لا يجد طعاماً حين يخرج فجراً من كهفه إلى الصيد أو القطاف. وأرى أنني (ربما، أيضاً) وازنتُ الفكرة في «انتقائياتٍ» من المعاني، والتحميل الظنيِّ، والافتراض المتجرِّئ. وكلُّها أسانيدُ بلاغاتٍ لا أسانيدُ تحقيق، مثلها كآلة الزمن ابتدعها خيالُ هـ. ج. ويلز، فغدت من علوم «اليقين المتخيَّل»، لاأساطير المتخيل. وكان في استطاعتي «اللعب بجدية» على مراجع مستوهمة كفعل بورخيس، فعُدَّ بعضُ مستوهَمِه أصولاً مراجعَ وقع فوكو في مصيدتها. لكن ربماعدتُ، في وقت آخر، مسترسلاً في الزعم، بإقناعٍ أو من دونه، عن أصل مفقود للأفكار جمعاء، مثلُها مثل كلِّ «واقعيةٍ» لاسنَد لها في «واقعيتها» إلاَّ أسطورة مفقودة.
سليم بركات /- عن القدس العربي