سوق عزرا من عبق الذاكرة العتيقة لمدينة قامشلو..

  خاص”Buyerpress” قامشلو- فنصة تمو

 تأسست مدينة قامشلو في ظلال الحامية الفرنسية المقابلة لمدينة نصيبين التركية , فكان تخطيطها عام 1926 على يد الملازم الفرنسي  “تيرييه”  حيث نمت على مدى قرن كامل لتغدو المدينة الأكبر حجماً و الأكثر تنوعاً في البلاد, من حيث التركيبة السكانية وهي تقترب في تنوعها  من لوحة فسيفسائية  فهي تستبطن طيفا اجتماعيا ملوّنا، كرديا عربيا سريانيا أرمنيا آشوريا يهوديا

وهنا سنسرد قصة سوق عزرا, هذا السوق القابع وسط مدينة قامشلو والملازم لذاكرة سكان المدينة, والتي كانت عبارة عن بضع محال يعمل فيها ابناء الطائفة اليهودية بعد نزوحهم من نصيبين حين رُسمت الحدود جنوب تلك المدينة  حيث قطع الشريان الاقتصادي بين مدينة نصيبيين ومدينة قامشلو.
ما دفعهم إلى النزوح جنوبا للحفاظ على ذلك الترابط الاقتصادي كانت هذه المحال تبيع مواد العطارة من نباتات وأعشاب وبخور ووصفات طبية, يعتبر السيد عزرا من كبار العطارين في هذا السوق الذي عرف باسمه ولايزال يتداوله.

الذاكرة لم تسعف البعض فتضاربت الآراء حول التاريخ الحقيقي لإنشاء سوق عزرا..
خاجو عزرا أحد التجار العاملين في سوق عزرا منذ أكثر من 23 عاماً  والمحل الذي يملكه اليوم كان يعود للشخص الذي وضع اللبنة الأولى لسوق العطارين المدعو بـ (عزرا إسحاق ناحوم ) فعرف باسمه وهو يهودي الأصل من مواطني سوريا.
أكد بأن تاريخ بناء المحل يعود إلى 1922م وهو لا يزال على حاله من حيث البناء والتصميم إلا أنه أوضح بأنه تم تبديل الصناديق الخشبية التي كانت توضع فيها مواد العطارة والتوابل بصناديق بلاستيكية نظراً لاهتراء الخشبية ويوجد بداخل  المحل مستودع صغير كان يستخدم ولا يزال في حفظ المواد الطبية والأعشاب وتركيب الخلطات والأدوية التي كانت تستخدم في علاج الأمراض الشائعة آنذاك.
الحاج حسين عرب: أعمل في هذا السوق منذ 20 عاماً, لم أرث مهنة  العطارة بل دخلتها رغبة في التجارة وكسب الرزق، سابقاً كان يعمل فيه أبناء الطائفة اليهودية وكذلك بعض التجار من أبناء الطائفة المسيحية وفيما بعد انضم بعض التجار المسلمين إلى هذا السوق.
هنا نبيع الأعشاب الطبية المختلفة (بذر الحنظل ، بذر الترمس المر، مليسة، سنمكة، عشرق، زهرة الألماس، ذنب الخيل) وكذلك أنواع التوابل والعسل وأدوات الصيد والحبال) ونستورد الأعشاب وبعض مواد العطارة من الصين والهند والمغرب عن طريق تجار حلب والشام.
وحول تاريخ إنشاء السوق أكد الحاج حسين بأنه يعود إلى 1923 أي قبل أن تأسس مدينة قامشلو وتخطط بشكل رسمي.
طلال خضر ليس شيخاً طاعناً في السن إنما يبلغ من العمر خمس وأربعون عاماً، يعرف اليوم بأنه أقدم الحاضرين ممن عملوا  في سوق عزرا:
أعمل في هذا السوق منذ عام 1987 وكانت العلاقة العائلية بين عائلة السيد عزرا وعائلتي قوية جداً، كان عمري آنذاك ثلاثة عشر عاماً، أستطيع القول بأن سوق العطارة كان آنذاك عبارة عن ثلاث محال إحداها كانت تعود للسيد عزرا والمحلان الآخران كانا للأخوة السريان أما ما تبقى فكانت عبارة عن محال للأقمشة.
الفضل يعود فيما اكتسبته في مجال العطارة للسيد عزرا بحكم العمل والعلاقات العائلية التي كانت بيننا، فهذه المهنة تحتاج إلى خبرة وممارسة ومعرفة كبيرة بأنواع الأعشاب ومهارة في إعداد الخلطات الطبية .
كان لدى السيد عزرا ختماً خاصاً كان يختم بها الوصفات التي كان يصرفها للمرضى وأهديت هذا الختم  وبعض من أدواته الشخصية كتذكار من قبل الابن الأصغر له بعد وفاته، فهي بمثابة تراث، وآثرت  لنفسي الاحتفاظ بها حتى الآن.
ماذا عن سبب تسمية سوق العطارين بسوق عزرا… ؟؟
السيد خضر: الأطباء كانوا قلة جداً في منطقتنا ذاك الحين أما الصيدليات فلم تكن موجودة أبداً، لذلك كان اعتماد الناس في التداوي والعلاج كان على العطارين, والسيد عزرا كان أول العطارين كان يبلغ من العمر ذاك الحين 82 عاماً وكان معروفاً بالبديهة والدراية في خلط البذور والأعشاب أو الجذور والأوراق فيخرج منها دواءً جديداً مركباً، ولم تقتصر معرفته على  معرفة فوائد وصفاته الدوائية وموادها، بل كان يعلم تأثيراتها ومخاطر استعمالها فيما إذا استخدمت في حالات غير مناسب لذلك الناس كانوا يقصدونه من المناطق وعرف السوق منذ ذلك الوقت بسوق عزرا.
وعما شيع عن هذا السوق بأن الناس لم تكن تقصده فقط لأجل العلاج,  بل كانت تقصده أيضاً بغاية أعمال السحر والدجل.
السيد خضر: هذه ليست إشاعة أنها معلومة صحيحة ولكن ما قيل عن عائلة السيد عزرا  بأنهم كانوا يمارسون أعمال السحر فهي غير صحيحة، والشخص الذي كان يمارس أعمال السحر هو أبن عم السيد عزرا المدعو بـ ناحوم ببو كان رجلاً مسناً ويبلغ من العمر 92عاماً وكان يكبر السيد عزرا بعشر سنوات  أشتهر بأعمال السحر يقصده الناس بشكل كبير.
والحاج عرب أيضاً أكد  أيضاً صحة لجوء البعض لسوق عزرا بغية أعمال السحر أو اقتناء المواد التي يطلبها منهم السحرة والدجالين.
وأضاف الحاج أننا حاولنا منع ممارسة هذه الأعمال والقلة فقط يمارسونها في السر وأقتصر البعض على بيع المواد المستخدمة في هذه الأعمال فيما سم  السيد خاجو بعضاً من هذه المواد  (دم الأخيين، أظافر الجن).
مهنة العطارة بين الماضي والحاضر

ليس كل من باع مواد العطارة أصبح عطاراً, فهذه المهنة تحتاج خبرة كبيرة وعميقة، وقديماً عبَرت عن الطب  فأول من عمل بها هو الطبيب العربي “ابن سينا” الملقب بأبو الأطباء
أما اليوم فيعرف بالطب البديل توارثها أبناء المهنة في عملية تسلسلية مستندة على الخبرة والتجربة المأخوذة من أحد أفراد العائلة يعلمها الجد للأبن ويأخذها الابن من الأب ليسمى من يزاول مهنة العطارة بـ “العطار”.
وهي تكاد تندثر لارتباطها بأشخاص قلة ممن مارسوا المهنة فاحترفوها واحتكروها نوعاً ما وهذا ما يعبر عن سبب موت بعض المهن بموت أصحابها.
ويبقى سوق عزرا رغم الحداثة العمرانية التي تحاول طمس ملامحها محافظاً على ذاك العبق الذي يلطم وجه الذاكرة المتعطشة لقراءة تفاصيل ما عافه الزمن على أرث المجتمعات الإنسانية ويظل سوق عزرا جزءاً لا يتجزأ من ذاكرة مدينة قامشلو.