عندما كانت السنة الثالثة من خطوات سوريا نحو المجهول … نحو الهاوية … نحو الشتات … كنا نضيء شمعة الرحيل العابث بكل ما مضى من عمرنا السوريّ…. مَن يصدق أن وطناً بأكمله يلهث ثلاث سنوات بلا توقف؟… يطارد العقل لعلّه ينقذ ما تبقـّى من عيون يلمع فيها بريق مَنسيّ من ذاكرة تجف وتيبس مع كل رجفة قلب خائف…. مَن كان يتوقـّع قبل ثلاث سنوات أن يصحو كل هذا الحقد… و أن تلتهم كل هذه النيران تاريخنا… تراثنا… ذكرياتنا… مدننا… و أن رياح غادرة لن تبقِ ولن تذر…. مَن كان يظن و – يًأثم بِظنهِ – بأن المسافات التي تفصل بين المدن السورية ستصبح حلماً لمن يريد أن يبث حنينه وشغفه لها …. وكابوساً لمن يريد أن يمتطيها فيجدها مدججّة بالخوف والبارود والقناصة والموت…. عندما كانت السنة الثالثة من لهاث سوريا خلف وهم الأمل… كنا نمتلك حرية الموت… ذبحاً… غرقاً…. غدراً… قنصاً… قهراً…. أو طلقةً في منتصف الجبين…. وكنا نمتلك زمام الشتات هرباً … تهجيراً… هجرةً…. دمعاً.
عندما كانت السنة الثالثة من الغياب السوري… كنت أحزم حقائبي وذكرياتي وكتبي وأقلامي وأرحل عن وطن لم يكن يوماً وطناً بل هاجساً أعيشه طوال عقود من انتظار أن يعيد لنا اعتبارنا وكرامتنا المهدورة على أعتاب تشبثنا بترابه، وحلماً بأن العمر بدأ هنا وسيمضي ولو متعثـّراً هنا وسيخفت ضياءه هنا.
عندما كانت السنة الثالثة من الشتات السوري… كنت أنظر الى الخلف كما لم أنظر من قبل… ربما أبصم على ذاكرة المدينة بصمة العيون الهاربة… ربما أرهن لديها كل ما أملك من أوراق و دفاتر وأقلام وحروف وأفكار ورؤى …. ربما لأقول لها وداعاً فالنار التي تلتهم كل شيء لم تترك لنا في القلب يقين اللقاء من جديد.
في الصباح الأول للسنة الرابعة من التغريبة السورية…. لا جديد…. سِوى… ترتيب فوضى الذكريات… وظلال الحقائب في المنافي… ووسائد جديدة وأسِّرة متأرجحة متهالكة كما انتظارنا الممتدّ لأقصى الحنين