مَن سيعتذر لمَن، حوليات أشقائنا – جولان حــاجي

أعاد الربيع العربي في هبوبه علينا أن الحروب تتوقّف ولا تنتهي، تنام وتوقظها الفرص والمناسبات. كم من جنازة مرّت تحت أقواس الانتصارات التي امتدّت من العراق إلى سورية وفلسطين، وكانت عارَ الجميع. كان الوصول إلى العالمية مأثرة يُسعى إلى اغتنامها، وقد بلغناها مرارًا بأثمان لا تقاس واشتهرنا كموتى وقرابين في قارّات الأرض.

بعارٍ أثقل مما تحتمله كواهلنا، ألقينا اللوم على ضمير العالم وعلى صمته وعمائه ووضاعته. وزعنا اللوم والاستغاثة والانتقام، وكان موتنا أرخص من حياتنا. غطينا بجهلنا الجيران وأقرباء الدم ومواطن ولاداتنا، وحين فكّرنا بالاعتذار من المختفي والمفقود والمخطوف عُدنا المتأخرين الذين كنّاهم، إذ ما من اعتذار يكفي ليفرّق دم إخوتنا عن دم أعدائنا، ولا ندم يقتلع الذنوب من عقولنا، لا أسف سيخرج أرواحنا من هذه الأسمال التي رقّعناها عبر العصور.ربحنا موتنا، وكانت حتوفنا المنكودة أسعارنا وأرصدتنا، نحن المجهولين العاديين، رهائن المعارك التي لم يخضها أحد في الماضي، أمسينا الشهداء وضحايا الحروب والغارات التي شنها ضدنا الأهل والأصدقاء والمنقذون.
لا يليق بالحروب قصر الدوام ولا يليق بها البقاء صغيرة. لا بد أن يسمو العنف ليمهرَ جباهنا بختمه ويسجننا في دمائنا. كان تاريخنا القريب، البئر التي نصب في قاعها قنوطنا ودموعنا وخيباتنا، وننفخ كلماتنا بالبارود والأمل والزهو.

حُجر على الحرية وديست طوال عقود الاستبداد والتحديث الوطنيين، حُبست وراء بوابات القومية، التي زيّن طغاةٌ عرب أقفالها باسم فلسطين والشهداء والتضحيات. طغاتنا علامتنا الوطنية الفارقة، أبقوا الطوارئ في الشوارع ومدّوا لحظتها إلى خارج الزمن. وكنّا في لحظة الإرجاء المديدة، نتخبّط ونعيش على الكفاف وتتفتت بلداننا المنهوبة وتنهار مدننا؛ وها نحن اليوم، بذخيرتنا البائسة من الموت، وسط مجانين الطغيان ومجانين الإيمان، أضعف من أي وقت مضى. استبيح بؤسنا وعوزنا.

رأينا الدم المسفوك واهتممنا إلى حين لأنه دمنا الذي يلهو به التجار ونلهو به، نمخر بركه في الأزقة وتخوضه عيوننا في الصور إذا استطاعت أن تتملّى كل هذا الفجور. ليست نبوءة، لكن السوريين والعراقيين رثوا مستقبلهم في ماضي الفلسطينيين الذين ظلّت مآسيهم عالقة في كلّ حاضر، وقد ازدادت كلّ مأساة صلادة بتوالي الآلام.

شجبوا الضعف وفساد الدول المنخورة بالطغيان وسلطان المافيات وفرق الموت، وأضحى النازح القديم مرآة النازح الحديث، وارتفعت في كلّ قصيدة وأغنية جبهات وحائط مبكى. لكن القتل أفدح من أن يُحصى والهول أضخم من أن يُدرس ويُفهم. في هذه المنطقة المنكودة من العالم قتل أكراد أرمنًا، وأعمل أتراك في كليهما فنون قتلهم. قتل عرب أكرادًا، ونكل كلاهما بإخوتهم وأهلهم وببعضهم. لكلّ طرف في الجنون ذريعته التاريخية ضدّ مجرم محسوب على طرف آخر، ولا أحد ينسى، وليس في جهنم التذكر ما يرحم.

هذا تاريخ مذابح ومقابر جماعية تتنقل من دير ياسين إلى صبرا وشاتيلا وحلبجة والأنفال والغوطة الشرقية وخان يونس. مذابح في هذه الرقعة من قلب العالم، مجرموها مؤمنون أو متدينون، أشقاء وأجانب، معتنقو يهودية ومعتنقو إسلام وأدعياء علمانية. وأي فرق في الموت بين الأطفال الموؤدين في عشوائيات غزة التي تقصفها دويلة إسرائيل الديمقراطية وبين الأطفال الذين نوّمتهم غازات الأسد إلى الأبد؟ قبل هذا التكرار والتماثل كانت اللغة المتفسخة في خطابات الانتصار الوهمية قد خنقت بأبخرتها الأفكار والرؤى، وكانت الأهجيات تحتالُ على ركاكة الواقع وضحالته، وتعلي من شأن ناطقيها والمتبجّحين بها على حساب من تحتقرهم.

عرب احتقروا أعرابًا ومستعربين، ولم يكن نادرًا أن تلمع أصفاد العنصرية تجاه بعضهم في التصرفات والكلام، أينما كانوا على وجه الأرض. ردّدنا العدل ولو انهار العالم، وكان الأصح العدل ولو على عظام الموتى، العدل ولو أهدرت الحياة التي لا تعوَّض. أخجلتنا أنفسنا والمستبدون الصغار الذين تنكروا بيننا كمخلّصين، وادّعينا العكس بصخب الجدال ونفير الأبواق والطبول.

احتقرنا الضعفاء أمثالنا، يتامى المآسي ومتسوليها، وكرهنا طويلًا الذين عاشوا بيننا وحسبناهم ضيوفًا طارئين ومتطفلين، عاشوا على منن الكفاف وخافوا من أن يُطردوا في أية لحظة. كانت وجوهنا تتشوه بشظايا الانفجارات وبالأسلاك الشائكة المزروعة حولنا وفي أسوار مدارسنا، وعظامنا تتفحم في الحرائق لنعود المجهولين الذين كناهم، المجهولين الذين تحوم حولهم الشبهات، الفقراء الذين احتقرهم الإخوة ولفظتهم الأمواج وطردهم الجيران وأوقفتهم الشرطة في المطارات والموانئ، المريبين الذين تزجرهم عيون الغرباء وتُسفح كرامتهم في رحابة الحضيض، وما من قانون في العالم يحاسب على لمعان الاحتقار في صمت النظرة.

العربي الجديد.