الواقع قد يشبه الحلم في «خلف العتمة» للروائي سليم اللوزي

الرواية تقترح منظورا موازيا للوجود، وتضع كاتبها أمام الكثير من الخيارات المفتوحة، تلك التي تستنطق فاعلية السرد، إذ يتحول المنظور إلى عتبة لما تهجس به عين الروائي، التي هي عين الكاميرا، او صاحب السيرة، او الباحث عن المعنى، وكلها تستدعي إقامة عالم تتجوهر فيه مادة المتخيل السردي، تلك التي تجعل من المنظور مجالا لإعادة تركيب الأحداث/الوقائع، أو مدونات المخطوطة أو مادة التاريخ والسيرة..
رواية «خلف العتمة» للروائي اللبناني سليم اللوزي، والصادرة عن شركة المطبوعات للتوزيع والنشر/بيروت/2014 تتبنى هذه المحاولة، إذ تترك لعين الروائي/ الراوي حرية تتبّع الأحداث، وتتبع صراع الحيوات، مثلما تترك الأفق للاستغراق في حلم طويل مفتوح للتأمل والكشف والمفارقة، تتلبسها هواجس البطل القلق، وهو يلاحق تفاصيل المشهد اليومي في المدينة، المدينة التي تتحول إلى مركز بؤري، تلتقي عنده وتتنافر الشخصيات، تسحبها من الذاكرة، أو تضعها عند خطوط ساخنة للمواجهة، أو عند خيارات صعبة، فالبطل يخضع المشاهد السردية لموجهات عينه الصحافية، تلك التي تبدو وكأنها الأقرب إلى فكرة الريبورتاج، الأمر الذي يعمّق حالة التقصي والتوتر، ويضع الروائي أمام حرية التملص من الأبنية السردية النمطية، على مستوى الزمن التتابعي/الخيطي، أو على مستوى المكان المركزي..
الروائي يجعل الزمان والمكان خاضعين لمنظوره الشخصي، إذ يلاحق من خلاله تفاصيل معيشه في المدينة، طبيعة إغماسه في الحكي، وفي مقاربة أسئلته الفادحة، تلك التي باتت مثار جدل لجيل جديد يفكر بطريقة مختلفة، ويعيش الكثير من الصراعات والتناقضات، فضلا عن هواجس الحرب واللاجدوى والخوف من المستقبل..
لا تتوه الرواية في عوالم فانتازية، قدر انشغالها بالأحداث المحشوة بهموم واقعية أقرب للفنتازيا، حيث الحرب والموت والخوف والمجهول، وحيث الصراعات التي تقود إلى الكثير من العتمة، وحيث الحلم الذي يقود البطل للكشف عما هو (خلف العتمة) من سرائر وصراعات وخيارات..
تقانة التوازي في الرواية مقترح قرائي لفحص بنية الرواية، وللكشف عن مستوى العلاقات التي يعيشها البطل مع الآخرين، أو عبر مونولوجه الداخلي في الحلم أو في الواقع، فهو يقوم بوظيفة الرائي من منطلق تمثله لإحالات السرد وإيهاماته، وللاستعانة بها للتحرر من عقدة الراوي العليم، وباتجاه أن يكون الراوي/الروائي أكثر انخراطا في الوقائع، وكاشفا عن النسقي المضمر، وعن شبكة الصراعات التي يعيشها البطل، وهو يتحرى عن عالم يتقاطع مع حلمه المريب «خارج هذا العالم، أعيش حياة طبيعيّة، أتذكّر أدقّ التفاصيل، لا تشوّش في عقلي، أستطيع أن أراجع ما أرى وأن أرويه، إلا أنني لا أستطيع أن أتحكّم في تحركاتي.
عتبة العنوان «خلف العتمة» شفرة موجهة في الرواية، فالظرف المكاني يتحول إلى دالة تحيل إلى ظرف نفسي غائم، وإلى هاجس لاستكناه ما يمكن أن يحدث، والعتمة هي شفرة بحمولات متعددة، وإحالات متعددة أيضا، يتعالق فيها اليومي مع السياسي مع النفسي مع الاجتماعي، وهذا التعالق يدفع الروائي للانزلاق إلى اليومي والواقعي أكثر فأكثر، وباتجاه أن يجعل فعل السرد يقوم على تقانة وظيفة الراصد والمراقب، من دون أن تأخذ هذه اللعبة مسارا معقدا، لاسيما إن هاجس اللوزي الصحافي ظل محركا للكثير من الوحدات السردية، عبر اعتماد تقانة التصوير والاستعاة، وعبر استخدام الجملة الرشيقة والمختزلة، تلك التي تعمد إلى إيضاح الفكرة وعدم الجنوح إلى الغموض، فضلا عن توظيف عين الكاميرا بوصفها عينا محايدة لالتقاط المثير والفاضح والمفارق..
المكان الروائي ليس تمثلا لعالم غائم، فبقدر اعتماده التشفير الرمزي، إلاّ أنه يلامس الواقع بعمق، إذ تكون بيروت هي المدينة السردية والواقعية في آن، مثلما تكون هي المجال الذي تتشكل في عوالم الروائي اليومية والواقعية.. وهذا التوازي ما بين الواقعي والمتخيل يفترض مستوى من القراءة التي تقوم على فعل الإحالة، وبما يستجمع تشظي الوقائع، والكشف عن خفاياها، تلك التي تعيد فحص الشخصيات وهوية المكان/المدينة، والمكان/ البحر، ولفضح ما يمور فيها من نسق القبحيات، التي تعيد توليد صورها الحاملة لمظاهر انهيارها النفسي والأخلاقي، لاسيما التوازي بين رصد الراوي للشيخ الذي تحرش بأحد طلابه في درس حفظ القرآن، وبين رصده التالي لتحرش جامع القمامة بماسح الأحذية مقابل مبلغ من المال، أو ما توحي به من نقد لاذع لصورة رجل الدين التي يمثلها شيخ الحفظ، أو الشيخ عبد الغفور الذي يكتب له تعويذه لتطهيره من الكوابيس والتهيؤات التي تصيبه..
نزوع الروائي لتشفير الأمكنة تسعى إلى ما يسميه عبد الله إبراهيم بالسرد الكثيف، إذ يكون الروائي فيها يملك القدرة على توجيه الأحداث، وعلى التحكم بالأمكنة والشخصيات، من خلال تقانة التوازي بين الحلم والواقع، أو من خلال عين الكاميرا التي يملكها، وهذه التقانة تجعل من الراوي لاعبا ماهرا في ترسيم حدود الحركة والمتابعة، وفي تحويل الأحداث السردية إلى أحداث موازية للواقع، وتحميلها شيئا من الشفرات السياسية والنقدية، وكأنه في الختام يقول إن الحلم لاينقذنا رغم إفراطنا فيه، لأن الواقع يشبهه، وإن كل ما يحدث سيكون خلف العتمة تماما، حيث تتشابه الرؤوس التي ترمي القنابل على الطلاب في ملاعبهم، وحيث ما تقوله الحزينة التي تقول بنوع من الفخر «الثوريون لا يموتون».
وبقدر ما أن الزمن الروائي في الرواية هو الزمن الشخصي للروائي، أي زمن ما يرصده، إلاّ أن هذا لا يعني عدم انفتاحه مباشرة على زمن الوقائع الموزعة هنا أو هناك، التي توازي لعبة رويها ما بين الحلم والواقع، فذاكرة الأم التي تحفظ الوصايا، لا تشبه ذاكرة الزوجة التي تتماهى كثيرا مع واقعية زوجها البطل، وحتى زمن الصديق غسان لا يشبه زمن الشيخ عبد الغفور، إذ يتحول الزمن إلى تاريخ بامتياز السرد، الذي ينخرط في ترسيمه الروائي لكي يقول إن العالم الذي نعيشه هو هكذا، مسكون بالرعب، وإن ما يحدث خلف العتمة قد يكون زمننا أيضا، لذا من حقنا أن نحلم وأن نصرخ، رغم أن الحلم قد لا يختلف كثيرا عن الواقع…
علي حسن الفواز/القدس العربي