الخروج
«الواهب» رواية لليافعين للكاتبة الأمريكية لويس لوري صدرت عام 1993 فكانت الأكثر مبيعا، ومع نهاية هذا العام تحولت إلى فيلم يحمل العنوان نفسه من بطولة ميريل ستريب.
يأخذنا الفيلم إلى مجموعة من المجتمعات المتخيلة يقودها (الكبار)، وعلى العكس من الأساطير اليونانية التي صورت الآلهة على شاكلة البشر بنزقهم وانحرافاتهم، يصور الفيلم هؤلاء البشر (الكبار) على شكل الإله المجرد، المتعال على الانحياز والعاطفة، يقودون مجتمعات بشرية ، بعد الخيارات الخاطئة التي اتخذها أسلافهم على الأرض. في المجتمعات الجديدة يحمي الكبار السكان من الخطأ بحرمانهم من الاختيار، ومن الانحياز، من كل مسببات الفرقة والنزاع، من اللون والعرق والتنافس والحب والجنس والعائلة والملكية، من تقلبات الطقس، من الكذب ومن كل مخاتلات اللغة وغوايتها، إيمان السكان عميق بأن الكبار لا يخطأون، يمتثلون للقانون برضا، ويتناولون، بناء على تعليمات الكبار، عقاقير تمنع نمو مشاعرهم الإنسانية، ويخضعون لحاجز يحجب عنهم ذاكرتهم الجمعية البشرية، ما عدا عددا محدودا من الموهوبين، يظهر أحدهم بين حقبة وأخرى من الزمن، يرى ما وراء المشهد، ينزع إلى المعرفة، عندما يظهر أحد هؤلاء، يحتفل به الكبار، ويوكلون إليه مسؤولية حفظ الذاكرة، حتى يمكنه منح الحكمة عندما يحتاجها المجتمع.
يحتفل المجتمع، في الفيلم، بمتلقي الذاكرة الشاب الجديد عندما تعلن عنه الرئيسة (ميريل ستريب)، تلك الذاكرة سيتلقاها من الواهب الأكبر سنا. تنتقل بنا مشاهد الفيلم من عالم من الزجاج والمعدن يميز المدينة التي يعيش فيها سكان المجتمع إلى عالم من الخشب والورق والتراب، يميز المكان الذي يعيش فيه الواهب على حدود المدينة المسموح للسكان ببلوغها، يتمتع حاملو الذاكرة بامتيازات فريدة، منها: الحق المطلق في طرح الأسئلة وهو ما يتعارض مع قوانين التهذيب السارية على بقية السكان، الحق في الكذب، والحق أو الواجب في الشعور بالألم.
في مجتمع يؤمن أفراده بأسلوبه، ويلتزمون بقواعده التزاما هادئا وخاليا من الانفعال حتى عند ممارسة القتل، وكأنه مجتمع من الملائكة المطيعين، ثمة شخصان يبدوان مثل البشر، الواهب والمتلقي.
لون الحب
لا يستطيع أي من أفراد المجتمع تمييز الألوان، فقط يتمكن من ذلك الفتى بطل الفيلم، المتلقي، وأول ما يميز، لون شعر محبوبته، ولون التفاحة، رمز الخطيئة الأولى، أو أداة التحرر، يستخدم المتلقي تفاحة كحامل لبصمة دم مزيفة، يخدع بها أجهزة الكشف عن حالته الشعورية اليومية، حينها يتوقف عن تناول الأدوية التي تعوق نمو مشاعره فيزداد عشقه، ثم يحرض فتاته على الفعل نفسه، وسرعان ما ستشعر بدورها مع تجربة خدعة التفاحة بالعاطفة تجاهه، عاطفة ليس لها اسم، ليس للعواطف اسم في هذه المجتمعات، فالعواطف واسماؤها استئصلت، ولا تستطيع بالطبع وصفها، من يستطيع وصف الحب؟ لكن الفتى الذي يتعرض يوميا على يد مدربه الواهب لتلقي الذاكرة البشرية يستعيد الاسماء، (مثل آدم في القصص الديني الذي يتعلم الاسماء). يعود الفتى من تجاربه حاملا الاسماء مع الذكريات، بعد أن اختبر الثلج والحر والحرب والألم والحب والموت والفقد والعائلة والفرح والقسوة والثورة، يتوقع الكبار من متلقي الذاكرة أن يعود من رحلة تلقيه مقتنعا بحكمة بناء مجتمعاتهم، محمياتهم الجليلة، لكنه يتمرد، يقبل محبوبته، تبهرها القبلة، ويعدها بالمزيد، فهناك المزيد في الذاكرة البشرية المحرمة، يخرج المتلقي من جنته هاربا، مخترقا الحاجز، آملا أن يحرر بذلك كل الذكريات البشرية ليستشعرها سكان المجتمع ويعيدون الاختيار، بين جنة بلا مشاعر وأرض مليئة بالتحديات.
ينحاز الفيلم بشكل واضح للتجربة البشرية رغم ما بها من مرارات، فمن المشاهد الأولى يقدم لنا العالم المثالي بكآبة، ويجعل سكانه يتصرفون ويتكلمون كأنهم آلات بلا روح، بينما يتم استعراض الذاكرة البشرية من خلال مشاهد متقطعة مفعمة بالحيوية والمتعة. يتوزع الفرح فيها على ركوب البحر والرقص والموسيقى والقبلات والدموع والنضال، بينما تختزل تجربة الألم البشري في مشهدين، قتل الأفيال وخوض الحرب.
يلتقي فيلم «الواهب» مع الفيلم الأمريكي «مدينة الملائكة» في تمجيده لحياة الإنسان بكل ما فيها من سعادة وألم، أكثر ما يحتفي به مدينة الملائكة هو الإرادة الإنسانية الحرة، هذا التفوق الإنساني على الملائكة الذي منح البشر وحدهم لذة العيش، بينما ينشغل فيلم «الواهب» بالعداء الأزلي المتواصل للعاطفة الإنسانية، وشيطنتها، واتخاذ موقف منها باعتبارها أصل الشرور، منذ قصة الخلق المعروفة، التي يستدعي الفيلم رموزها، حتى العصر الحديث، الذي يجل الحياد والموضوعية ودقة التعبير، حيث تدور أحداث الفيلم، في مكان وزمان متخيلين، على درجة من التقدم التقني والحداثة، التي يبدو أنها في صراع مع العاطفة، تريد أن تلغي دورها في تشكيل وعي الإنسان وخياراته مقابل حمايته من الألم.
مستقبل البشرية ليس شأنا عربيا
يلتقي فيلم «الواهب» أيضا مع رواية «السيد من حقل السبانخ» للمصري صبري موسى، التي صدرت عام 1980 والتي تشترك مع الفيلم في النزوع لحنين بدائي يظهر في لحظة مثالية من التقدم العلمي والأخلاقي ليفضح عيوب المثالية وأفقها الخانق.
على العكس من بطل «الواهب» بطل صبري موسى في رواية «السيد من حقل السبانخ» لا يمتاز عن غيره من سكان المجتمع في شيء، غير أنه، يتردد لثوان قليلة، في مجتمع يتحلى بالنظام والدقة، تخرجه تلك الثواني من إيقاع الحياة، يجد نفسه وقد أضاع وسيلة مواصلاته التي ستعيده إلى البيت مضطرا لقضاء ليلة في العراء مع أفكاره. تقع الأحداث في القرن الرابع والعشرين في مدينة كبيرة أنشئت على ما تبقى من سطح الكرة الأرضية بعد الدمار الهائل الذي سيلحق بالأرض بسبب الحرب الإلكترونية الأولى، مدينة محمية بقبة وجدران تحيط بها، تقوم على أسس ديمقراطية وأنظمة عادلة، والأهم، منظومة أخلاقية تطورت لتحافظ على الجنس البشري، منظومة من الصدق والإخلاص في العمل والتحرر الجنسي، لكن كل هذا لا يعود كافيا في لحظة حنين الإنسان إلى بدائيته، البطل الذي يشعر فجأة بخواء، يطرح فكرة فتح البوابات والخروج إلى المساحة المهجورة المحرمة من الأرض، ومواجهة تحدياتها من جديد، فتدور نقاشات، تحفز ذهن القارئ. لكن هل ثمة قارئ؟ لرواية عربية تستشرف المستقبل، وتطرح أسئلة وجودية وفلسفية حول اشكالاته؟ جهد أدبي وفكري وبحثي رائع يظهر في رواية «السيد من حقل السبانخ»، حتى ان بعض ملامح الحياة التي تخيلها المؤلف ومنها الاستنساخ سنراها تتحق بعد خمسة عشر عاما من صدور الرواية، لكن هذا النوع من الأدب يبقى مهجورا ويتيما في العالم العربي.
على العكس يبدو المستقبل هاجسا في الغرب، وأسئلته الوجودية تشغل المؤلفين، خاصة مؤلفي كتب اليافعين، وتلك الكتب بدورها فتحت شهية السينما الأمريكية في السنوات العشر الأخيرة لتقديم الفيلم المستقبلي، أو الخيالي على نحو يستشرف المستقبل أو يعالج أزماته المتوقعة، ولكن بصورة مختلفة عن النمط الذي كان ولايزال سائدا ومعروفا باسم أفلام الخيال العلمي، التي يدور فيها البطل حول المجرة يقاتل أعداءه بسيف من الليزر وينقذ العالم!
في «أفاتار» و»ألعاب الجوع» و»الواهب» وغيرها، يحفز أدب اليافعين جمهوره من الشباب الصغير، (وهو جمهور معتبر، إذ باتت هذه الروايات تحقق مبيعات بملايين النسخ)، على التفكير في مآلات الإنسان ومصيره وعناصر القوة بداخله. بينما تفتح الفكرة البسيطة، والخيال الواسع الذي يمتاز به هذا النوع من الأدب شهية السينما ونجوم الصف الأول لإنتاج أفلام جماهيرية بامتياز، تتصدر شباك التذاكر لأسابيع.
ناقدة مصرية: حنان جاد /القدس العربي