أكراد سوريا.. تاريخياً، سياسياً، واجتماعياً

أكراد سوريا

تاريخياً، سياسياً، واجتماعياً

المؤلف: جوردي تيجيل

ترجمة أماني لازار

نادراً ما يظهر الكرد السوريين في وسائل الإعلام. هذا ينطبق أيضاً على أبحاث أكاديمية خصصت لسوريا، وحتى أبحاث عن القضية الكردية. فأغلب الأعمال تركز على المناطق الكردية في تركيا، العراق، و بدرجة أقل، ايران.

وهذا لا ينطبق فقط على مرحلة تاريخية محددة. فقد كان العنصر الكردي في سوريا أيضاً مسألة هامشية في الأعمال التقليدية عن الانتداب الفرنسي ومرحلة الاستقلال في بلاد الشام.
الاستثناء الوحيد هي أعمال عصمت شريف وانلي، التي كانت بشكل عام منحازة لمصلحة الكرد.

هذا الكتاب إسهام حاسم في دراسة التاريخ الكردي في سوريا منذ فترة الانتداب (1920-1946) حتى يومنا هذا.

يقدم جوردي تيجيل تحليلاً دقيقاً، معقداً، ومتناقضاً أحيانا،ً متحاشياً المقاربة الشكلية، ليربط بين الهويات القبلية، المحلية، الإقليمية، والقومية، من ناحية، وتشكيل وعي الأقلية الكردية في مواجهة توطيد القومية العربية في سورية، من ناحية أخرى.

يحلل تيجيل أسباب هذا “الاستثناء” في الفلك السياسي الكردي باستخدام مواد غير منشورة ، ولا سيما فيما يتعلق بفترة الانتداب (سجلات فرنسية وصحف كردية) ونظرية الحراك الاجتماعي. تجنب أكراد سوريا المواجهة المباشرة مع السلطة المركزية، ومعظم الأكراد اختاروا استراتيجية “التقية”، وحفروا في داخلهم صيغ الهوية التي تشكل تحدياً للإيديولوجية الرسمية على الرغم من استبعاد كل ما هو كردي من المجال العام، وخاصة منذ عام 1963. يستكشف الكتاب القوى المحركة المؤدية إلى توطيد وعي الأقلية الكردية في سورية المعاصرة ؛ تلك العملية المستمرة التي يمكن أن تتخذ شكل التطرف أو حتى العنف.

صدر الكتاب في عام 2008.

جوردي تيجيل: دكتوراه في الفلسفة، التاريخ (في جامعة فريبورغ –سويسرا) والاجتماع (مدرسة الدراسات العليا في علوم الاجتماع،EHESS ، باريس) . يزاول عمله حاليا فيEHESS، باريس. تهتم أبحاثه بالتركيز على القوميات في الشرق الأوسط، وخاصة بالحراك الكردي ما بين الحربين. كتب العديد من الكتب والمقالات.

 

الكرد والنظام البعثي

التعاطي مع ” الخطر الكردي”

في 12 تشرين الثاني من عام 1963، نشر الملازم محمد طالب هلال، الرئيس السابق للمخابرات في محافظة الحسكة، دراسة عن الجزيرة. كانت نوعاً من تقرير أمني طلب منه تقديمه للسلطات التي وافقت عليه كمرشد للتحرك ومصدراً للإلهام في الترتيب للقضية الكردية. في هذا التقرير اعتمد محمد طالب هلال على مراجع ” تاريخية” لإنكار وجود الشعب الكردي وإرجاء المطالب الكردية للأراضي العربية. وفقا لكاتب التقرير، الشعب الكردي لم يوجد لأنهم لا يملكون ” لا تاريخ ولا حضارة، لغة ولا أصول عرقية.”

دعا في التناقض الصارخ في شهادته السابقة، لسياسات قمعية متصاعدة على كل الأصعدة الهادفة لمحو كل ما يشير في الجزيرة إلى الهوية الكردية لأن الكرد كانوا : “أعداؤنا”، وبالرغم من الرابطة الموحدة الموجودة بين الكرد والعرب من خلال الاسلام،” ليس هناك فرق بينهم وبين الاسرائيليين، بين يهودا وكردستان، ولذلك، فهم من النوع نفسه.” مخلصاً للفكرة العضوية التي انبثقت أول مرة في الشرق الأوسط في بداية القرن العشرين، اعتبر المسألة الكردية ” ببساطة ورم خبيث تطور في جزء من جسد الأمة العربية. “العلاج الوحيد” الذي ربما يمكننا تطبيقه عليه هو الاستئصال” . مدركاً للبعد الحدودي للمسألة الكردية، شرح ضرورة التنسيق مع الدول الأخرى المعنية من أجل اعتماد خطوات مشتركة في الكفاح ضد ” الخطر الكردي” المزعوم الذي كان خطراً على الجميع.

في داخل سوريا، اقترح التقرير اثني عشر تدبيراً للقضاء على ” الخطر الكردي” : 1- تنحية الكرد عن أراضيهم نحو الداخل، 2 –الحرمان من التعليم،3- تسليم الأكراد المطلوبين إلى تركيا، 4-الحرمان من إمكانيات التوظيف،5- حملة دعائية ضد الأكراد،6- ترحيل رجال الدين الكرد الذين سوف يتم استبدالهم بالعرب،7- تطبيق سياسة فرق تسد ضد الكرد،8- احتلال الأراضي الكردية من قبل العرب،9- عسكره” الحزام العربي الشمالي” وترحيل الكرد من هذه المنطقة،10- إقامة مزارع جماعية للعرب الجدد،11- الحرمان من حق التصويت أو شغل منصب من قبل أي شخص لا يعرف العربية، و 12-الحرمان من الجنسية لأي شخص غير عربي يرغب في أن يعيش في المنطقة.

عندما تم الكشف عن التقرير علناً عام 1968، أكدت السلطات للناس أن هذا كان رأياً شخصياً وليس رأي الحكومة. رغم ذلك ، من الصعب عدم وضع هذا النوع من الوثائق في منظور أكثر عالمية من قومية “الإرادة غير الحية”. كما رأينا، تم اعتبار” المجموعات الكردية” على أنها عدو داخلي منذ عام 1950. خلال فترة الجمهورية العربية المتحدة تمت ملاحقة النشاطات الكردية ،وفي عام 1962 قامت السلطات السورية بإحصاء رسمي تحت ظروف استثنائية في محافظة الحسكة، بحرمان 120000 كردي من الجنسية. آخذين هذه الأحداث بالاعتبار، الإقرار بخطة هلال عام 1965 من قبل الحكومة والقيادة القطرية السورية لحزب البعث، وضعت نتائج منطقية لتطور المفهوم الأخير للمسألة الكردية.

من بين كل النقاط المقترحة من قبل محمد طالب هلال، كانت دمشق مركزة على إقامة “الحزام العربي”، شريط طويل من الأرض الصالحة للزراعة المحروثة جيداً التي تمتد على طول 280 كم على الحدود التركية، من رأس العين غرباً حتى الحدود العراقية شرقاً، الذي كان تقريبا بعرض ما يتراوح بين 10 و15 كم. توقعت الخطة ترحيل 140000 كردي حرم غالبيتهم من الجنسية السورية عام ،1962 وكانوا يعيشون في 332 قرية متوضعة في قلب هذا الشريط. سيتم استبدالهم بالعرب .الغرض وفقاً للصحافة العربية كان “انقاذ العروبة في الجزيرة ”

بأية حال، لم توضع الخطة في حيز التنفيذ إلا في عام 1973. الأسباب لتأجيل إقامة “الحزام العربي” بدت متعلقة بقيود تقنية. اعتمد استعمار الجزيرة على عدة شروط ملائمة، مثل بناء سد الطبقة على حوض الفرات. وهكذا بعد ملء سد الطبقة عام 1975 بحوالي 4000 عائلة عربية من قبيلة الولدة الذين يملكون أراض غمرت، استقروا وتسلحوا في 41 من مزارع نموذجية في الجزيرة في قلب المنطقة الكردية كما أيضاً في خمسة عشر مزرعة شمال الرقة. حال وصولهم إلى الجزيرة حصلت العائلات العربية على حقوق الملكية، والملاكين السابقين لهذه الأراضي لم يحصلوا على تعويضات نقدية أو عينية أبداً. مقابل هذا السخاء في سياسة الحكومة، كان يفترض بالمستعمرين العرب تقديم الولاء للنظام. أجبرت مشاريع الري السكان العرب على الانزياح نحو حلب، منبج، والباب على طول الحدود التركية. ويرى الكرد أن الموقع اختير لتعطيل الروابط المادية مع أكراد تركيا. تم توقيف حملة تعريب الجزيرة من قبل حافظ الأسد في عام 1976 لكن الوضع الراهن ظل على حاله .

كان الكرد ضحايا لسياسات أخرى هدفت إلى جعل الهوية الكردية غير مرئية في سوريا خلال هذه الفترة. في عام 1967 تم تخريب كل الإشارات للوجود الكردي في هذه البلاد من الكتب المدرسية بينما بدأ الأهالي الأكراد بتلقي ضغوط كبيرة من موظفين لمنعهم من تسجيل الأسماء الكردية لأولادهم في سجلات المواليد في الدولة. أخيراً، مضايقات الشرطة، بما فيها مداهمات البيوت والتوقيفات، حتى بين الفلاحين، أصبحت شائعة من قبل السلطات المحلية ضد الكرد.

اختيار شركاء من بعض الأكراد

قصاء الكرد من دوائر السلطة العليا، نقص الاعتراف بحقوقهم الثقافية، سياسة الحزام العربي، والرفض المواطنة لآلاف الأكراد كان يعوض بسلسلة من الاجراءات المختارة خلال السنوات. في الحقيقة، بين عامي 1970 و1990 شارك الكرد بالنظام البعثي عبر الانخراط في العديد من نخبهم من الخوان المسلمين والشيوخ الرسميين مثل احمد كفتارو مفتي الجمهورية 1964-2004.

في وفاة والده احمد كفتارو 1921-2004 متخذا الطريقة الكفتاريه فرع من الطريقة الاخوان النقشبندية في الحي الكردي في دمشق منذ عام 1950 بدأ الشيخ كفتارو مهنته المهابة في دمشق في عام 1964 سمي المفتي الاكبر للجمهورية السورية لكن عمله في مركز حركته لم يبدأ حتى استلام حافظ الاسد السلطة عام 1970.

بحماية النظام، استطاع احمد كفتارو تطوير اخويته الكفتاريه وأسس بنفسه قائدا روحيا شهيرا جدا بين الكرد والعرب السنة في الوقت نفسه.

انتفاضة القامشلي،2004

علامة لعهد جديد للكرد في سوريا

العنف المفاجئ الذي اندلع في الأراضي الكردية شمال سوريا وفي المناطق الكردية في حلب ودمشق شهد ظهور احتجاجات كردية ضد المؤسسات في المشهد السياسي السوري في آذار 2004. سابقا، كانت الحكومة السورية مطمئنة إلى أن الأكراد غير قادرين على التحرك وقد مثلت حلقة هذه الاحتجاجات مفاجأة لها. كان وضوح ” المشكلة الكردية” قد وصل إلى ذروته بتغطية وسائل الإعلام العالمية لهذه الأحداث والاحتجاجات التي لحقت بها( والتي استمرت حتى عام 2005) لتنتشر، معطية أهمية أكبر للعنصر الكردي.

بطريقة أو بأخرى، فإن انتفاضة القامشلي(serhildan) دلت على بداية عهد جديد للسكان الأكراد في سوريا. أولا، تخلى كل اللاعبين في المشهدين الثقافي والسياسي الكردي في الحال عن أي محاولة لوقف النزاع. سواء كان ذلك في شمال سوريا أوفي كبرى مدن البلاد دمشق وحلب، واصل آلاف الأكراد تحد مفتوح للنظام البعثي بوسائل التعبئة، التي عرفت بـ “الحراك من أجل الهوية” وأشكال عديدة من التحركات الجماعية، مثل المسيرات، إحياء الذكرى، مهرجانات ثقافية، وتظاهرات. للمرة الأولى في تاريخ سوريا المعاصرة وصلت حركة الاحتجاجات إلى كل المناطق الكردية في سوريا، وهذا ما عزز الوحدة الرمزية لميدان الأكراد السوريين- “كردستان السورية”. من الآن فصاعدا، فإن ضحايا انتفاضة 2004آذار في مدينة القامشلي سيضافون إلى عظماء شهداء الحركة القومية الكردية في سوريا والمناطق الكردية الأخرى.

ثانيا، منذ عام 2004 تم التودد للأحزاب الكردية من قبل مجموعات سورية معارضة أخرى. في الخارج، رابطة الإنقاذ الوطني ( NSF)، التي تم تأسيسها في بداية عام 2006 ، وحزب الإصلاح السوري، الذي ترأسه فريد الغادري ومقره في امريكا، قيل أنه على وشك تقديم الحل “الديمقراطي” للمشكلة الكردية في سوريا. في داخل البلاد، قام أيضاً مفكرون، ناشطون في حقوق الانسان، ومعارضون علمانيون باتصالات مع منظمات كردية. وصرح النظام السوري أيضا ببعض التصريحات معلنا احترامه ونيته الحسنة تجاه الأكراد. أخيرا، ولأول مرة في التاريخ، أظهرت أحزاب كردية وأكراد من مناطق أخرى تعاضدها مع السوريين الأكراد من خلال تصريحات علنية وتظاهرات في ديار بكر(تركيا)، السليمانية و اربيل ( العراق) . ماهي العناصر التي أتت بمثل هذا الرد المثير نحو “المشكلة الكردية” في ذلك الوقت؟

بعيدة وفاة الرئيس حافظ الأسد، في 10/7/2000، تسلم ابنه بشار الأسد ” العرش” .وتولى بسرعة أعلى المناصب التي كان يشغلها والده، بأية حال، الخلافة لم تكن محدودة بنقل السلطة من “الملك” إلى “ولي العهد” .في الوقت الذي عقد فيه مؤتمر حزب البعث من 17-20 حزيران 2000 ، قام بشار الأسد بتعيينات جديدة لمناصب النظام الرئيسية، وخضع البعث لتغيير عميق في موقعه من السلطة. بالنتيجة، أخذ جيل جديد مكانه تدريجيا.

وأعلنت خلال خطاب الرئيس الجديد لتولي الرئاسة دورة جديدة من التغييرات. كان التأكيد على المسائل الداخلية، بالدعوة بشكل خاص إلى المسؤولية الأخلاقية الشخصية والعمل على المسائل المشتركة والدفاع عن الرفاهية العامة. بمعنى آخر، لقد كان تحول من “التحكم” في المجال السياسي، وبشكل خاص في المجال الاقتصادي. لاحقا، انبثق جو جديد. كانت حرية التعبير مكفولة، أولا للمسؤولين السياسيين، ومن ثم للمفكرين ( المثقف) و”المجتمع المدني” والذي هو خليط من الجمعيات، النوادي، النقابات، مؤسسات النشر ،الفيدراليات، الاتحادات ،الأحزاب، والمجموعات التي تكون صلة الوصل بين الدولة والمواطنين. الجمعيات السورية التي تم تهميشها في ثورة البعث 1963 بتاريخها العريق الذي يعود إلى العهد العثماني، تم قصرها على الجمعيات الخيرية والمحدودة، من انتشار واسع، إلى مناطق جغرافية محددة ومجموعات طائفية. منذ عام 2001 حصل التغير في عالم سوريا الساكن. الجدل السياسي شهد بعض التحولات المفاجئة بالنظر إلى المدة الطويلة من حكم حافظ الأسد الذي بدأ في تشرين الثاني 1970.

عقد المفكرون ” الحوار الوطني” في ريف دمشق في أيلول عام 2000 ، حيث يمكن للمشاركين الاستماع إلى الآراء غير المحورة عن المنظمات السياسية في سوريا. بدءا بهذا الحوار، النقاشات، المنتديات، والتجمعات التي بدأت تنتظم عبر البلاد. وزعت وثائق علنا أو نشرت في الصحافة العربية، التي تعرضت للهجوم منذ دخولها إلى سوريا. تم التوقيع من قبل 99 مثقف على”إعلان الـ99 ” والذي هو عبارة عن نص قصير يطلبون فيه بشكل خاص إلغاء قانون الطوارئ والقضاء العسكري، كان قد نشر في 26 أيلول 2000في صحيفة الحياة. وتبعه “إعلان الـ1000 ” أو” الوثيقة الأساسية “التي وزعت في 11/ ك2 /2001 ، “الوفاق الوطني العام” و “بيان الـ 185مغترب سوري “.

“إعلان الـ1000” الأطول والأكثر تناولاً من قبل وسائل الإعلام من بين الوثائق المنشورة، شجع الحوار الوطني والبدء ببعض الإجراءات: (1) إلغاء حالة الطوارئ والمحاكم العسكرية، (2) الاعتراف بالحريات السياسية، الآراء، والأفكار، (3) تعديل قانون النشر،(4 )نشر الديمقراطية، وقانون الانتخابات. في الأسبوع التالي، أعلن النائب “المستقل” رياض سيف، عن تشكيل حزب حركة المجتمع السلمي. أطلق الإخوان المسلمون من خارج البلاد في أيار /2001 “وثيقة من أجل بناء الدولة الحديثة في سوريا “أيضا بعض الأحزاب من داخل الجبهة الوطنية التقدمية، مثل الحزب الشيوعي( فرع وصال فرحة- بكداش أو يوسف فيصل)، أو هؤلاء الذين ظلوا خارج الجبهة مثل الحزب السوري القومي الاجتماعي، أظهروا رغبتهم في إطلاق نشاطات سياسية قانونية و مستقلة. عند هذه المرحلة، بدأ النظام حملة صارمة من الإجراءات على” ربيع دمشق”.

شاركت الأحزاب الكردية والفعاليات الثقافية أيضا في الـ “ربيع” .في القامشلي، أنشأت مجموعة من المفكرين الأكراد منتدى “بادِرخان” وبأكثر من وسيلة عامة، بدأوا بالعزم على القيام بعلاقات مع بعض ممثلي ” المعارضة السورية” مثل الأحزاب السياسية، و”مستقلين”، وأيضا مع ناشطين في حقوق الانسان. في آب 2002، قام بشار الأسد نتيجة قلقه من هذه التطورات بالزيارة الأولى لرئيس جمهورية إلى الجزيرة السورية منذ أربعين عاما. وبالرغم من ذلك، لم تقدم أية تنازلات بعد الـ2002 ،مما قاد النشاطات الكردية لاعتماد استراتيجية جديدة للحصول على الاعتراف بحقوقهم القومية والعرقية.

الأحداث تقود إلى الثورة الكردية

جاء عامي 2002 و2003 ليشهدا على مفارقة في الحياة السياسية السورية.

بين عامي 2000 و2001 ،في نهاية “ربيع دمشق” ،عندما كانت الجامعة العربية والأحزاب السياسية يلعبان الدور الأكبر في تمثيل المعارضة السياسية للنظام، تم ترحيل مركز ثقل المعارضة نحو “محيط” الحقل السياسي السوري، باتجاه الأحزاب السرية الكردية. هذا الانتقال كان بمجمله أكثر تناقضا لأنه وقع داخل البيئة الضيقة للفضاء العام السوري.

أغلقت منتديات النقاش المنظمة عبر البلاد في عام 2001 ،ومن ضمنها القامشلي، والشخصيات الأكثر شهرة في الحركة قد تم توقيفهم. في أيلول 2001 استبدلت الحكومة السورية قانون المطبوعات. وطبق المرسوم البديل رقم50 ، على الناشرين، المطابع، الصحفيين، المحررين، الكتاب، الموزعين، وأصحاب المكتبات، وهو مؤلف من أكثر من “خمسين مادة قيدت وسائل الإعلام المطبوعة ووسعت سلطة الدولة عليها”. وقد أخضعت المنشورات باللغة الكردية لهذا المرسوم، لأنهم ربما يتمكنون من إساءة فهمه سعيا لتغيير الدستور أو يهددون وحدة الدولة بالمصادقة على الطلبات الكردية بالاعتراف والحقوق. في الواقع، في عام 2002 ،تم توقيف عدد من الأكراد، من ضمنهم الكاتبين ابراهيم ناسان وحبيب ابراهيم، وحكم عليهما بالسجن لمدة خمس سنوات لامتلاكهما وتوزيعهما لمنشورات باللغة الكردية وتعليمهم في مدارس كردية سرية. وكان تنظيم مهرجانات مستقلة والتدريب على الموسيقى الكردية، التي لطالما سمح بها حافظ الأسد، أيضا مخاطرة بالاعتقال.

في ذلك الوقت كان الحزب الهامشي السابق، يكيتي (الكردي)، ومنظمات “المجتمع المدني” غير الكردية، قد قررا نقل التحركات العامة لشجب الظلم الواقع على الاكراد إلى العاصمة السورية. كان الدور المسيطر للأحزاب السياسية في علاقتها مع “المجتمع المدني” في الأراضي الكردية الشيء الثابت في تاريخ سوريا المعاصر وفي مناطق أخرى كردية في الشرق الأوسط. الحركة القومية كانت قوة التحريض الوحيدة للمجتمع، الثقافة، وحتى المبادرات الخيرية، ومن ضمنها جمعية الإحسان لفقراء الجزيرة المؤسسة عام1932 ،التي كانت مرتبطاة بالأحزاب السياسية، وبالنتيجة، بمخاطر التطورات السياسية. المفقودة، منذ البدايات الأولى، “للمجتمع المدني” في الأراضي الكردية من شمال سوريا حتى عام 2005 التي يمكن تفسيرها بتخلف هذه المناطق ، تفوّق الاتصالات القوية القبلية بين السكان، الرد العنصري من قبل النظام تجاه أي مطلب يأتي من المجتمع الكردي، والحظر الواضح لتشكيل أي جمعية في محافظة الحسكة.

وفقا لعباس فالي، هناك عامل آخر تسبب في ضعف المجتمع المدني بين الأكراد. في رأيه، الأحزاب السياسية الكردية لم يكن لديها الإرادة ولا القدرة على خلق هكذا ثقافة،” بل على العكس من ذلك، هذه الأحزاب ازدهرت على وجود الضعف في ” المجتمع المدني” في كردستان”. أيضا، العلاقة شبه العضوية بين المبادرات النادرة التي أطلقت من قبل الأكراد في سوريا والأحزاب السياسية يبدو أنها تمت على غرار تصور معين من قبل القيادات القومية. ومن نافل القول أن هذه العلاقة بين الأحزاب السياسية ونشاطات ما يسمى “بالمجتمع المدني” يشبه العلاقة بين الجهات الفاعلة القومية والمجتمع الذي تطمح إلى حكمه، بمعنى أن هذه الجهات الفاعلة القومية تضع السياسات التي تعكس تصوراتهما عن مجتمعهما وكيفية تنظيمه:” في الواقع، هم (القوميون) يزعمون بأن هذه المبادرات محدودة بظهوراتهم، هذا لأنهم المتحدثون باسم الأمة”.

حزب يكيتي

Partiya yekiti ya kurdi li suriye أو يكيتي (الكردي) أسسه خليط من العديد من المجموعات الحزبية من أصول متنوعة التي يمكن تقسيمها ببساطة إلى معسكرين: الأول كان اليساريين و حلفاء الماركسيين ومؤيدي التحرر الوطني، الآخر مكون بشكل حصري من القوميين الأكراد. أعضاء من مجموعات يسارية تتضمن شخصيات هامة حزبية مثل مروان عثمان
( عامودا، 1959 ) ،ناشط، شاعر، وصحفي الذي يعرف نفسه على أنه “ماركسي وفقا لنموذج تروتسكي “.مثل الكثير من الطلاب المسيسيين، انضم عثمان إلى الماركسية عام 1970 في الجامعة.وأسس في عام 1983 ، مع أكراد آخرين، حزب صغير trotskyite ،منضما إلى المنظمة الشيوعية العالمية .بعد بضع نجاحات شعبية، بشكل خاص الاحتفال بعيد النوروز عام 1986، تحول إلى مجموعة صغيرة نتيجة القمع المستمر. بالنتيجة ، سعى عثمان ورفاقه لإنشاء علاقات مع مجموعات كردية أخرى ذات ميول يسارية. تقبل حزب الفلاح الكردي ميول تروتكسيتي وكلا المنظمتين، مع ثلاث أحزاب صغيرة أخرى، أنشئوا حزب يكيتي عام 1992. الذي تم ترأسه من قبل أفراد راحوا يتركون بصماتهم في حياة الحزب، فؤاد عليكو وحسن صالح، لكن أيضا مجموعات أخرى مثل اسماعيل عمو ومحي الدين الشيخ علي من يكيتي (الديمقراطي).

في البدايات، تموضع في أقصى اليسار من الطيف السياسي، لم يقدم حزب يكيتي وجها مختلفا عن “التقدميين “و”العلمانيين” الآخرين، لكن هناك بعض الاختلافات السوسيولوجية تلحظ عندما يقارن بغيره من المجموعات. بداية، بالرغم من أن قادة يكتي ضموا في صفوف ممثليهم كل طبقات المجتمع، الطلاب، المفكرين، أصحاب مهن ليبراليين (مثل الأطباء، والمحامين) إلا أنهم هيمنوا على مناصريهم. أيضا، كان الحزب منتشرا في مراكز المدن، تحديدا في القامشلي، الحسكة، دمشق، حلب، واللاذقية.

أخيرا، ربما كنتيجة طبيعية لهذه السلسة من الأحداث، قام أعضاء من يكيتي بمحاولات لإعادة تنظيم صفوفهم وهم أخبر بذلك. بالاتصال مع مجموعات مختلفة من” المجتمع المدني” و المعارضة السورية في الجامعات، في الصحف، وجمعيات حقوق الانسان، حاول قادة حزب يكيتي توسيع حدود “المشكلة الكردية” أبعد من الرؤية الضيقة “لحركة الهوية” لتشمل الدور الخارجي لحركة “المجتمع المدني” واحترام حقوق الانسان عامة، السياق الذي يمكن أن يربط مختلف التجمعات. تم تعزيز إعادة الهيكلة هذه بواسطة “ربيع دمشق” والزيادة المتسارعة للأنشطة التي لحقته كانت أيضا بهذه الروح نفسها من المعنويات.

ومع ذلك، بخلاف القوى التي تقود المعارضة السورية، عرف يكيتي كيف يجذب الشباب لينضموا إلى صفوفه. وهكذا،انضم ” الحرس القديم” في يكتي إلى القادمين الجدد إلى حقل السياسة. جيل جديد، ولد في عهد حافظ الأسد كان من أكثر المتضررين بالأحداث الرئيسية في الذاكرة “القومية” مثل الهجرة الجماعية لآلاف من الأكراد العراقيين إلى تركيا عام 1991 ،ولاحقا، بعد إنشاء الحكم الذاتي الكردي في شمال العراق، الذي كان بنتيجة الجدل الأيديولوجي للحرب الباردة. وبالمثل، استعمل حزب يكيتي لغة أكثر مباشرة وأظهر طموحه بتغيير طريقة تصرف التحركات الكردية بإعطاء وضوح أكثر لمطالبه (وهذه أيضا كانت استراتيجية هامة لحركة حزب العمال الكردستاني) وسلح نفسه ببرنامج سوري، حول شعار” المشكلة الكردية تتم تسويتها في دمشق”.

وهكذا، كان الفعل المؤسس للحزب أيضا مصدر انقسامه الأول. إلى إحياء الذكرى الثلاثين للإحصاء الخاص في عام 1962 في مدينة الحسكة، علقت مجموعة صغيرة من المناضلين ملصقات ينددون فيها بسياسة الحكومة بالإشارة إلى الأكراد “غير المسجلين” على الجدران والمباني العامة في عدة مدن كبرى في البلاد. ووفقا لجولي جوثير، الرواية لم تكن بسبب” محتوى الملصقات” بل كانت بسبب الرؤية الجديدة للمطالب.

“الذخيرة الجديدة من التحركات” التي تم إظهارها من قبل الحزب، فضلا عن برنامجه الأكثر راديكالية، بشكل خاص الإشارة إلى “كردستان سوريا”، أحيت التوترات في الحزب التي نتج عنها الانشقاق الأول عام 1995. وانسحب الأنصار الأكثر مشاكسة وتطلبا من الحزب. في نوفمبر 1999 ،في وقت انعقاد مؤتمر الحزب الثالث، أدرجت ركيزتان في برنامج الحزب: أكثر “وضوحا”( المنشورات، الحملات، الاحتجاج ،التظاهر، التجمعات، الإضراب، ومطالب إقليمية (كردستان سوريا).

بقي موقع الحزب اليساري كما هو، بالرغم من أن الحزب استمد قوته “من القوة الهائلة للشعب الكردي في سوريا”، لقد اعتمد اعتمادا كبيرا على الانخراط في صفوف” العمال”. بالنظر لإيجاد حل للقضية الكردية، شدد الحزب على الحاجة إلى إعادة النظر في الدستور السوري والمادة الجديدة التي يمكن إضافتها والتي تعترف بوجود القومية الكردية. إلى جانب مطالب ثقافية تقليدية، كجعل اللغة الكردية لغة رسمية في المناطق الكردية والسماح بإطلاق الإذاعات المحلية والقنوات التلفزيونية في المناطق الكردية، نادى حزب يكتي بالاعتراف بعيد النيروز على أنه يوم عطلة رسمية ليس فقط بالنسبة للأكراد بل لكل البلاد. طالب الحزب على المستوى السياسي، بأن تكون “كل السلطات المحلية، التجمعات، المديريات، و المؤسسات في المناطق الكردية منظمة ومؤسسة ومدارة من قبل الأكراد.

فعل جديد، رد فعل جديد

العديد من الأحداث التي حصلت بين عامي 2000 و2002 كان لها آثار مشجعة على النظرة السياسية لقادة حزب يكتي. أولا، نهاية التحالف الاستراتيجي مع حزب العمال الكردستاني وقد أقحمه النظام في أزمة متورطا في إعادة تنظيم صفوفه و برنامجه ،وحزب يكتي يطمح لملء فراغ اليسار بعد منع حزب العمال الكردستاني في سوريا. أيضا، الخطاب الأول لبشار الأسد في عام 2000 ،متضمنا تقاعد بعض ضباط المخابرات وبعض رجال الشرطة في الشمال ،فضلا عن اللقاء المنعقد في آب 2001 بين القيادات العليا في حزب البعث وممثلي الأحزاب الكردية المشاركين في الجبهة والتحالف، هذا ما أدى بقادة حزب يكتي للتفكير بأن وقت التحرك قد أزف.

تظاهر في 10 كانون الأول 2002 ،في اليوم العالمي لحقوق الإنسان، ما بين 150و200 عضوا من حزب يكتي أمام البرلمان السوري مرددين شعارات مثل ” المواطنة للأكراد”،” يسقط حظر الثقافة و اللغة الكرديتين”، و”احترام حقوق الانسان في سوريا”. المظاهرة كانت الأولى من نوعها منذ عام 1984 .المؤيدين ايديولوجيا لحزب البعث انتشروا في الشارع، المكان المقتصر استعماله سابقا على أنشطة مؤيدي النظام .خلال التظاهرة، كان قد نشر بيان احتجاج على معاملة الأكراد في سوريا، مشيرين فيه إلى الظلم الذي تعرضوا له، مثل ” رفض منحهم حقوق المواطنة، القرى والمناطق الكردية التي أعيدت تسميتها بأسماء عربية، الظلم الاقتصادي، رفض اللغة والثقافة الكرديتين ،والقصور في جزء من الدستور عن الاعتراف بالقومية الكردية.

مروان عثمان وحسن صالح كانا من بين الذين قدموا مذكرة إلى رئيس مجلس الشعب، عبد القادر قدورة، مطالبين بحماية حقوق السوريين الأكراد. أشارت المذكرة إلى العذاب الذي تعرض له الشعب الكردي بمواجهة هذا التمييز، الضرورة الأساسية للاعتراف بالقومية الكردية كقومية ثانية، الاعتراف بثقافتهم وحقوقهم اللغوية، المشاكل التي واجهها الأكراد الذين سحبت منهم الجنسية، وتوزيع الأراضي الكردية على العرب في المحافظات من مناطق أخرى. أوقف مروان عثمان وحسن صالح خمسة أيام بعد الدعوة للقاء مع وزير الداخلية اللواء علي حمود.

في 25حزيران 2003 ،نظم حزب يكيتي مظاهرة سلمية مقابل مقر اليونيسيف في دمشق، في مناسبة اليوم العالمي للطفولة. مرة أخرى اختار يكيتي تاريخا رمزيا من أجل مشاركة المطالب الكردية مع قضايا أكثر عالمية. ما يقارب 380 متظاهرا، 200 منهم كانوا أطفالا، اجتمعوا ليطالبوا الحكومة بالحقوق المدنية والسياسية للسكان الأكراد في سوريا ،من ضمنها حق التعلم باللغة الكردية .في هذا الوقت، لم يكن يكيتي وحيدا حيث نجح في إقناع أحزاب كردية أخرى بالمشاركة. بمواجهة الظهور المتزايد للمطالب الكردية، فرقت قوى الشرطة والأمن المتظاهرين بعنف وتم توقيف العديد من المشاركين وتعذيبهم.

وافق حزب يكيتي على المشاركة في تظاهرة صامتة مع أحزاب كردية أخرى أمام البرلمان في 6 تشرين الأول 2003 ،لإحياء ذكرى إحصاء 1962 .بالرغم من ذلك بدا هذا بالنسبة ليكيتي وكأنه تراجع عن استراتيجيته في الوضوح ،هذا الإيحاء بالمرونة مكن من جمع الأحزاب الكردية ومبادرات المعارضة السورية، بشكل خاص جمعيات حقوق الانسان، لأول مرة. هذا التعاون تأكد مرة ثانية في 10 كانون الأول 2003 ،في يوم حقوق الانسان، في شكل تظاهرة موحدة اشترك فيها 1000 متظاهر أمام البرلمان السوري.

فعل نظام بشار الأسد القليل ليغير من جرأة موقف حزب يكيتي.

أرسل بشار الأسد في آب 2002 ، رسالة موجهة إلى أكراد الجزيرة .هذه الرسالة بشكل غير مباشر كان ملخصها،” نعم، سوف ننظر في مشكلتكم، لكن لا تستخدموا هذا كورقة للضغط بعد الآن”. بعد أربعة أشهر فقط، تجاوز يكيتي الخط الأحمر الموضوع من قبل النظام بتنظيم تظاهرة في العاصمة السورية في اليوم العالمي لحقوق الانسان. قمع قوى الأمن لم يطل قادة الأكراد فقط. مع كل تحرك، عدد الناس الذين يتم احتجازهم يزداد.

في8 آذار 2004، عندما تمت التظاهرة المنظمة من قبل الأكراد والعرب في دمشق اجتمع المئات من الأكراد في القامشلي للاحتفال بالاعتراف بالفيدرالية في العراق. كان اليوم العالمي للمرأة “ملائماً سياسيا” كذريعة أخرى للتجمع. وقد استخدم في الواقع، كذريعة لتأكيد الهوية الكردية في مكان عام، مع عروض قدمت من قبل مجموعات فلكلورية ومهرجانات نظمت للشعر باللغة الكردية. وفي هذه الأثناء، اشتبكت قوات الأمن بعنف مع المشاركين، وتم توقيف ثماني ناشطين من حزب يكيتي، بعد أربعة أيام من ذلك اندلعت انتفاضة القامشلي.

انتفاضة القامشلي

دراسة الحراك بعض من تلك التي تقود إلى الشغب العنيف تقترح بأن المشاركين عرضة لمؤثرات مختلفة ومختلطة ( الغضب مشاعر الحرمان الأمل اليأس) التي تقود إلى تشكيل مجمعات متنوعة ومعقدة علاوة على مشهد واحد تفوق على الاخرين بالعودة الى تحليل العنف الذي اندلع في القامشلي في 2004 من الضروري ان نجري جولة من هذه الوقائع لنتمكن لاحقا من نقد المقارابات التفسيرية للعنف بالاخذ بعين الاعتبار كل المؤثرات على المدى البعيد الاقتصاد النامي العنف الرمزي والبيئة الحالية السياق العالمي شخصية الفاعلين بالنتهاء من هذا يبقى من غير الممكن الوصول الى تعريف الحقائق في هذا الفصل الجديد في تاريخ الأكراد في سوريا لكن مع ذلك هو يسهل لفهم تعقيد هذا الفصل العنيف.