سَربَسْتُ… والحَيَاةُ المُنْدَسَّةُ في هَوَارْنِيف كَبيْضٍ يَتَسَرَّبُ مِن فُتُوقِ الوُجُود

عمران علي (دوست)

لَم يَجلِسْ “سَربَسْتُ” على دَرَجِ هاوارنێڤ؛ بَل انْسَكَبَ عليه، كأنَّ الدَّرَجَ هو الذي اختارَ جِلدةَ رُكبَتَيهِ لِيَسْنُدَ هَشَاشَةَ ظِلٍّ كان يُكاثِرُ نَفسَهُ بالصَّبر. رِجلٌ فوقَ رِجلٍ، لا لِلتَّرتيب، بل لِأنَّ الجَسدَ أضاعَ مَكانَهُ في الطابورِ الطويلِ لِلحَيَاةِ، فاستعارَ لَهُ شَكْلَ الجُلوسِ على نحوٍ لا يعرِفُهُ إلّا المُتعَبونَ مِن صَفِّ أقدامِهم أمامَ أبوابِ الغياب.

وجهُه؟ لَيْسَ وجهاً. بَل خَريطَةُ قَحْطٍ مُتَأخِّر، تُلوِّحُها الرِّيحُ، وتُدَثِّرُها العَتمةُ بِسِيَاجٍ مِن التَّجعيداتِ التي تَتَراكَضُ كجِرْذانِ المَجارِي في ليلِ المُدن.

 لِحْيَتُه؟ عَمودُ دُخانٍ جَفَّ من شدَّةِ الوقوفِ في البرد، فالتصقَ بفَكٍّ تَعبَ من مُطاردةِ الكلام. وعَيناهُ؟ يا لِلعَينَيْن… كَأنَّ كُلَّ واحِدَةٍ مِنهما تُدَرِّبُ النَّظرَ على السَّيرِ فوقَ جُثَثِ النَّهار. حادّتانِ كَسِكِّينٍ ضَلَّ طريقَهُ إلى مِطبَخٍ، وانتهى في فُقرِ هاوارنێڤ يُقَلِّبُ الهواءَ على مَهَلٍ، يَبحثُ عن نَبْضٍ سَقَط مِن زِمامِ الدَّهر.

أمامَ “سَربَسْت”، يَنتَصِبُ القَفَصُ:

قَفَصٌ لَيسَ قَفَصاً.

بَل هُوَّةٌ معدنيّةٌ تُقَلِّبُ دَمَها الرَّفيع فوقَ عُلبَةٍ كَرتونيّةٍ تَحْمِل ماركَة “إيفيت” — بَقِيَّةٌ مِن سَمْنَةٍ تُركيّةٍ تَسَرَّبَ دُهنُها قبلَ عشرينَ جوعاً، ثُمَّ لَم يَبْقَ إلّا كِتابةٌ دَهِنَتْها الأيّامُ بِهِزَالٍ يُشْبِهُ تَجليدَ الجُوعِ بِورقِهِ المُقَوَّى.

فوقَ هٰذا الإرثِ الفارِغِ يَقفُ القَفَصُ كأنَّهُ مِحرابٌ مُعَلَّقٌ على ضَبَّةِ الفَوضى.

ثَلاثُ إناثٍ مِن الكُنارِي يَتَحَرَّكنَ فيه كخَفَقاتٍ مطويَّةٍ في صَدْرِ أرضٍ لا تَجيئُها الفُصولُ إلّا جافَّة. ريشُهُنَّ أصابعُ ضوءٍ مَكسورٍ، يَلْتَمِعنَ حين تَتنفَّسُ النّافذةُ في الجدارِ خلفه، وتَخْمُدُ حين يَمُرُّ صوتُ الليلِ فوقَ الحاراتِ الطِّينيّة.

والذَّكَرُ…

أحَدُّ مِن شَفرَة، أضْيَقُ مِن أُنْثَى الرِّيح، يَنفُشُ صَدرَهُ كأنَّهُ يَستَعِيدُ مِن السَّماءِ قِصَّةً لَم تَكتُمِل. يُراقِبُ الإناثِ كما يُراقِبُ مُقاتِلٌ رِماحَهُ في لحظةِ ما قبلَ الصَّدام، لكنَّهُ مُحاصَرٌ في دَائرةٍ ضَيِّقَةٍ من حَديدٍ نَاحِلٍ، وَصَمتٍ يَرفُضُ أن يَتَغَنّى.

 

وفي زاوِيَةٍ تُشبهُ ـ في قِلَّتِها ـ جُوفَ سِجِلٍّ مَطمور، تَتَكوَّر خَمْسُ بَيْضاتٍ:

ليست بيضات.

بل مَخطوطاتُ قَدَرٍ مُقَبَّبَة، تتنفّس بحرارةٍ ضَئيلةٍ تُشعِلُ الهَواءَ بينَ الأسلاكِ. كُلُّ بَيْضَةٍ كَوْكَبٌ مكسورٌ في رحمِ القَفْص، كأنَّها تَحمِلُ نُسَخاً مُعادَة مِن الحَيَاةِ، تُخبِّئُها عن السَّماءِ التي كَثُرَت ثُقوبُها في هاوارنێڤ.

“سَربَسْتُ” يَمسَحُ القَضيبَ الأعلى بظِلِّ أصابِعِه، كأنَّهُ يَتَفَقَّدُ نَبْضَ حيوانٍ منقرضٍ، أو كأنَّهُ يَقرَأُ على مَعدِنٍ بارِدٍ سِفْراً هَرَبَ مِن ذاكرةِ الطُّيور.

يَميلُ رأسَهُ قليلاً، يَسمَعُ ما لا يَسمَعُه أحدٌ:

رَعْشَةُ الأنثى حين تَخاف، تَشَظّي نَفَسِ الذَّكَر، اهتِزازُ البُيوض كقَلبٍ يَتَدَرَّبُ على الخَفْقِ.

خَلْفَهُ، يَرتَفِعُ البابُ الخَشَبيُّ كجُمْجُمَةٍ أُعِيدَ نَحْتُها مِن صَدَأٍ ومَجَازٍ. زُخرفَتُه المُتَآكِلَةُ تُلوِّحُ كأوراقِ نَعيٍ لِبيوتٍ لَم تَعُد تَعرفُ أسماءَ سُكّانِها. والجِدارُ الذي يَحْمِلُ البابَ يُسَرِّبُ طينَه كما يُسَرِّبُ الميتُ آخرَ غَمْزاتِهِ في الهواء.

والأسلاكُ المُتَدَلِّيَةُ؟

هي أعصابُ القَرْيَة، تُرْتَجُّ على هَمسِ الرِّيح، تُجرِّبُ نَفْسَها ككائنٍ يُعيدُ اختراعَ الهَوَاء.

أمّا “سَربَسْت”، فَيَبدو كأنَّهُ يُهَنْدِسُ الفوضى؛ يَجْلِسُ على دَرَجٍ مُنخَفِضٍ، لا لِيَرتاح، بل لِيُواصِلَ حِراسةَ كَوْنٍ يَسْتَوْطِنُه القَفَصُ. يُدَوِّرُ صمتهُ بينَ يديه ككُرةِ صوفٍ مُهَمَلَة، ويَنتَظرُ أن يَفقُسَ شيءٌ ما — بَيْضَة، صَوْت، حُلم، صَدْر طائر، أو قِصَّة لا تَعرفُ كيف تُفتَتَح.

“سَربَسْتُ”…

آخرُ الرَّجالِ الذينَ يُرَبُّونَ المَعنى داخل القُفولِ الحديديّة، ويُطعِمونَ هاوارنێڤ مِن بُيوضِ صَبرِهم، قَبلَ أن يُعلِّموا الطُّيورَ — بشيءٍ يشبهُ السِّحر — كَيْفَ تُحلِّقُ وهي حَبِيسَة.