الدكتور عبدالكريم عمر*
تشير التطورات التي أعقبت سقوط النظام السوري وهروب الاسد، وسيطرة هيئة تحرير الشام على السلطة إلى تشكّل بنية حكم أحادية أعاقت بدء مرحلة انتقالية فعلية. فقد أُقرت سلسلة إجراءات احادية بدأت ب مؤتمر النصر مرورًا بما يسمى بالمؤتمر الوطني وصولًا إلى الإعلان الدستوري الذي ربط بموجبه معظم السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية بشخص الرئيس الانتقالي “الشرع”. هذه الهندسة السياسية أسست لنمط حكم مركزي يفتقر لآليات الرقابة والفصل بين السلطات، وكرّست بيئة حاكمة أقرب إلى نموذج سلطوي منه إلى انتقال ديمقراطي.
كما أن تشكيل الحكومة الانتقالية ومجلس الشعب عبر هيئات ناخبة مُعيّنة، مع منح الرئيس الانتقالي الشرع صلاحية تسمية 30% من الأعضاء، قوض عملية الفصل بين السلطات وعَزّز منطق الاحتكار السياسي والاستفراد بالسلطة، وأضعف شرعية المؤسسات الناشئة. وقد ارتبطت هذه الإجراءات الأحادية بحدوث انتهاكات خطيرة، لا سيما في الساحل والجنوب (السويداء)، ما يعكس هشاشة البنية السياسية الجديدة وغياب التوافق المجتمعي.
في هذا السياق، جاءت اتفاقية 10 آذار بين الجنرال مظلوم عبدي ورئيس المرحلة الانتقالية “أحمد الشرع” كأحد محاولات الحدّ من الاستئثار بالقرار العسكري والسياسي. فقد نصّت الاتفاقية على دمج مؤسسات الادارة الذاتية وتثبيت وجود قوات سوريا الديمقراطية كقوة وطنية وعلى ضرورة دمجها في الجيش الوطني السوري وفق آليات تفاوضية توافقية تراعي خصوصيتها المؤسسية. تمثل هذه الخطوة اعترافًا عمليًا باستحالة إدارة البلاد عبر إقصاء أحد أهم الفاعلين العسكريين والاجتماعيين في شمال وشرق سوريا.
إلى جانب ذلك، يفرض الواقع السوري ضرورة تبنّي نظام حكم لا مركزي، نظرًا لبنية المجتمع السوري وتعدد المكونات القومية والدينية وللفشل البنيوي الذي أظهره النموذج المركزي المغلق لحزب البعث الذي حكم سوريا لأكثر من ستة عقود. وتؤكد التجربة التاريخية للبلاد أن أي محاولة للعودة إلى المركزية المغلقة ستؤدي الى درجات جديدة من الاحتقان والنزاعات.
كذلك يُعدّ ملف القضية الكردية في سوريا محورًا رئيسيًا في أي مقاربة وطنية مستدامة. إذ يتطلب الاستقرار الدائم الاعتراف الدستوري بالحقوق القومية المشروعة للشعب الكردي، وضمان حقوقه الثقافية والسياسية، وإدماج تجربة الإدارة الذاتية ضمن هيكل دولة موحدة ذات نظام لا مركزي. فالتجربة رغم كل التحديات، أثبتت قدرة مقبولة على إدارة مناطق متعددة المكونات، وتمثل اليوم عنصرًا واقعيًا لا يمكن تجاوزه في عملية بناء الدولة.
المطلوب في هذه المرحلة اجراء مصالحة وطنية شاملة وصادقة، وتوقيف خضاب الكراهية وتحريم التحريض الطائفي، والاعتراف بالانتهاكات التي حدثت ومحاسبة المجرمين.
وعليه، يتطلب اعادة بناء دولة سوريا قابلة للاستمرار صياغة عقد اجتماعي جديد يستند إلى فصل حقيقي بين السلطات ومشاركة سياسية واسعة وغير اقصائية، بالإضافة الى تبني اللامركزية كركيزة اساسية للحكم، والاعتراف الدستوري بحقوق الشعب الكردي القومية المشروعة ومختلف المكونات الاخرى.
إن استمرار المقاربة الأحادية سيعيد إنتاج الاستبداد والدكتاتورية بصيغ جديدة، ويطيل أمد عدم الاستقرار. أما الانتقال إلى نموذج تشاركي تعددي لامركزي، فيمثّل السبيل الوحيد لتجاوز إرث الاستبداد والحرب، وبناء دولة حق وقانون ووطن مشترك يتنعم فيه كل مكونات الشعب السوري بالعدل والمساواة، وتحمي مكتسبات المرأة وترسخ دورها في مؤسسات الدولة، قادرة على الاستجابة لتعقيدات المجتمع السوري وتنوّعه.
*مسؤول مكتب الإدارة الذاتية الديمقراطية لشمال وشرق سوريا في دمشق