في غزة، تسعى تركيا بقيادة، أردوغان، لإيجاد موطئ قدم في ترتيبات ما بعد الحرب رغم الرفض الإسرائيلي القاطع. وفي الضفة الغربية، تكشف التقارير عن تصاعد عنف المستوطنين ضد الفلسطينيين والفلسطينيات في ظل “نظام حصانة”. أما لبنان، فيتأرجح بين خطر حرب جديدة في الجنوب وواقع بيروت التي تهرب إلى عالم من الرفاهية الزائفة والمؤتمرات الاستثمارية.
في تقرير نشرته صحيفة نويه تسورخير تسايتونغ، كتبت الصحفية نيكول أنليكر، من إسطنبول، عن تدهور العلاقات بين تركيا وإسرائيل في ظل حرب غزة، ورفض إسرائيل القاطع لمشاركة تركيا في قوة حفظ السلام هناك.
وأوضحت الكاتبة أن وزير الخارجية الإسرائيلي، غدعون ساعر، عزا هذا الرفض إلى “العداء الطويل الأمد”، حسب وصفه، من الرئيس التركي رجب طيب أردوغان تجاه إسرائيل. وقد صدرت هذه التصريحات بعد إصدار محكمة تركية، في مطلع نوفمبر، مذكرة توقيف بحق نتنياهو ومرافقيه بتهمة ارتكاب إبادة جماعية. على إثر ذلك، صرّحت متحدثة باسم الحكومة الإسرائيلية: “لن تكون هناك قوات برية تركية – لا الآن ولا في المستقبل.”
ووفقًا للتقرير، فإن حكومة نتنياهو تعارض أي دور تركي في جهود حلّ النزاع منذ بداية حرب غزة، بسبب اتساع النفوذ التركي في المنطقة، والعلاقات الوثيقة بين أنقرة وحركة حماس. وذلك لأن تركيا تعتبر الحركة منظمة تحرر وتستضيف قادتها بشكل منتظم. وترى الصحيفة أن سعي أردوغان لتصوير نفسه “حاميًا للشعب الفلسطيني” أفقده مصداقيته كوسيط محايد، رغم أن قربه من حركة حماس الإسلامية المسلحة مكّنه أحيانًا من لعب دور غير مباشر، كما حدث عندما استعان به الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، لحثّ الحركة على قبول وقف لإطلاق النار.
ويشير التقرير إلى أن تعقيدات العلاقة بين أنقرة وتل أبيب برزت مجددًا خلال قمة السلام في شرم الشيخ. فبعدما أكد نتنياهو مشاركته، أعلن لاحقًا تراجعه بسبب “تعارض في المواعيد”. ووفقًا لوكالة الأناضول التركية، فإن أردوغان طلب من الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي إلغاء مشاركة نتنياهو. وبحسب روايات متداولة، دارت طائرته فوق البحر الأحمر، وانتظرت حتى مغادرة الوفد الإسرائيلي قبل أن تهبط. بينما أعلنت الرئاسة التركية أن أردوغان لا يشارك في اجتماعات يحضرها نتنياهو.
وتستعرض الكاتبة مسار العلاقات بين البلدين: من اعتراف تركيا المبكر بإسرائيل عام 1949، إلى سنوات الشراكة الاستراتيجية، ثم التدهور بعد تولي حزب العدالة والتنمية الحكم عام 2003، حيث تتقارب رؤى الحزب مع حركة حماس عبر الانتماء الفكري المشترك إلى جماعة الإخوان المسلمين. وتفاقم التوتر مع الحرب على غزة عام 2008-2009، حين وصف أردوغان الهجوم الإسرائيلي بأنه جريمة ضد الإنسانية.
وتعرضت العلاقات لقطيعة كاملة بعد مقتل عشرة ناشطين أتراك إثر الهجوم الإسرائيلي على سفينة “مرمرة الزرقاء” عام 2010، أثناء محاولتها كسر الحصار المفروض على قطاع غزة. واستمرت القطيعة أكثر من عشر سنوات، قبل استئناف العلاقات الدبلوماسية عام 2022. وفي أواخر سبتمبر 2023، ظهر أردوغان ونتنياهو يمزحان أمام الكاميرات لارتدائهما ربطة عنق متطابقة اللون، ما أثار انطباعًا بتحسّن العلاقات.
لكن هذا المشهد سرعان ما أصبح من الماضي. فمع هجوم حماس الإرهابي على إسرائيل في 7 أكتوبر 2023، عاد الخطاب العدائي من جديد. واتهم أردوغان الحكومة الإسرائيلية بارتكاب إبادة جماعية، وقارن نتنياهو بـهتلر، ولوّح بالتدخل العسكري. وردًا على ذلك، طرحت إسرائيل فكرة طرد تركيا من حلف شمال الأطلسي (ناتو).
كما يشير إلى أن التوتر تجاوز ساحة غزة، إذ تصاعدت الخلافات بين البلدين في سوريا بعد سقوط نظام بشار الأسد في ديسمبر، كما يتنافسان على النفوذ في شرق البحر المتوسط. إلا أن ذروة التدهور جاءت عقب هجوم حماس، حيث سحبت أنقرة وتل أبيب سفيريهما، وعلّقت الرحلات الجوية بين إسطنبول وتل أبيب، ثم أغلقت تركيا مجالها الجوي وموانئها أمام السفن والطائرات الإسرائيلية. وفي أغسطس، أعلن وزير الخارجية التركي، هاكان فيدان، عن تجميد كامل العلاقات التجارية مع إسرائيل.
وتستطرد الصحفية أن الأرقام تروي قصة مغايرة. ففي مايو 2024، أعلنت أنقرة عن وقف التبادل التجاري احتجاجًا على الهجوم الإسرائيلي على غزة، ونفت استمرار أي تعاملات. إلا أن إحصائيات التجارة الدولية للأمم المتحدة تشير إلى العكس: “وفق بيانات الأمم المتحدة، صدّرت تركيا عام 2024 إلى إسرائيل بضائع بقيمة 2.9 مليار دولار”، مقارنة بنحو 5.3 مليارات في العام السابق، ما يجعل تركيا – رغم الانخفاض – من بين أبرز المصدّرين إلى إسرائيل.
كما تنقل الكاتبة عن غاليا ليندنشتراوس، من معهد دراسات الأمن القومي في جامعة تل أبيب، أن التجار استطاعوا الالتفاف على الحظر عبر الشحن إلى دول وسيطة، أو عبر تصنيف البضائع كوجهة إلى “فلسطين”. وترى أن ذلك يكشف مدى تكامل اقتصادي بين البلدين، مدفوعًا بعوامل مثل القرب الجغرافي. وتضيف أن هذا الحظر يبدو موجهًا لتهدئة الرأي العام التركي أكثر من كونه فعليًا.
وتختم الصحيفة تحليلها بالتأكيد على أن التصعيد بين البلدين مستبعد في المرحلة الحالية. فقد لعبت أنقرة دورًا تفاوضيًا مهمًا في اتفاق وقف إطلاق النار، وتسعى الآن للتأثير على الترتيبات اللاحقة للحرب في غزة. غير أن الحكومة التركية – بحسب ليندنشتراوس – تستهين بالنفوذ الإسرائيلي في واشنطن.
المصدر: رويترز