نصّ متمرد

 

أكرم خلف عراق

رواية «إبرة الرعب» للكاتب السوريّ هيثم حسين (منشورات «ضفاف» و»الاختلاف»- بيروت/الجزائر، 2014)، رواية صادمة متمردة، اجتازت بطرحها الجريء وأفكارها المتحررة كل الخطوط الحمراء، لذا كان سردها كاشفاً فاضحاً عارياً، لكل التصورات والأوهام والانفعالات التي تتعلق بالانفجار الغرائزي والحرائق الشبقية، على نحو يمكن القول معه إنها رواية تخطّت عقده الجنس، وعقدة العيب، كما تتخطى سيارة مسرعة إشارة ضوئية على مرأى من رقيب السير.
رواية كهذه، لم تمتثل في سردها وأحداثها لمقص الرقيب، يمكن أن توسم في بعض المجتمعات المحافظة اجتماعياً والمتشددة دينياً، بأنها رواية إباحية، تتحدث بإسهاب عن الأسرار والغموض الذي يكتنف المنطقة المحرمة، لكنها رغم ذلك، استطاعت أن تسلط الضوء على الخيال الشهواني، والتفكير الجنسي لفئة من شرائح المجتمع، هي فئة القتلة الزناة والشواذ جنسياً.
«رضوان»، ابن «موسو» اللبناني، هو الشخصية المحورية في الرواية، شاب مضطرب سلوكياً، متوتر نفسياً، ينتمي إلى أسرة فقيرة ومهمشة، تقطن قرية بائسة مغلقة، يتفشى بها الجهل والتخلف والشعوذة. سكانها البسطاء يقضون الأعوام بالنميمة، وانتظار مواسم الأمطار. وهو على علاقة عدائية متأصلة مع محيطه منذ سنوات طفولته المتوسطة، وقتما أصيب شقيقه «كاوكو» بإعاقة عقلية جراء قذفه بحجر من قبل أحد أبناء الجيران، وكذلك بسبب ازدراء أهل القرية لوالده «موسو» بعدما عاد من لبنان، وهو يعاني حروقاً وبتراً لبعض أصابعه، وصلم لأذنيه.
إن المجتمع القروي الزراعي الساذج، الذي صور والده كما لو أنه مجرم أو قاتل مأجور، كان قد ولّد لدى «رضوان» دافعاً عدوانياً ورغبة انتقامية، بقيت مرافقه له طيلة حياته في ما بعد، وكأنها أسلوب حياة ونمط تفكير.
يلتحق الشاب بالجيش السوري، وهناك يخدم في وحدة تقدم الخدمة الطبية عبر مستشفى ميداني، حيث يلم «رضوان» ببعض المهارات الطبية المساعدة، ومنها إعطاء الحقن، والتي يستغلها لإشباع رغباته المقهورة وغرائزه النهمة، على نحو يوحي أن شخصية هذا الشاب مصابة بالكبت وتدني مستوى الأخلاق، إلى درجة يمكن القول معها إن «رضوان» هذا «مستنقع قذارة»، إذ يتعرف هناك إلى ضابط فاسد، لا هم له سوى سرقة الأدوية وبيعها لحسابه الخاص في الصيدليات. وهذا بداية الانحراف، من ثم يمارس اللواط مع «نضال»، الذي يحلم أن يجري عملية جراحية تحوله من ذكر إلى أنثى.
بعد سنوات يعود «رضوان» إلى القرية التي جاء منها، بعدما اغتصب «جولا» المشردة وقتلها، لكن هذه المرة بفكر إجرامي ماكر يرتدي ثوب البراءة، ليمارس عبر «إبرة الرعب» كما يسميها، مهنة التمريض، والتي يستغلها للولوج إلى أعراض النساء، مستغلاًّ جهل أهل القرية وتخلّفهم. إذ ينتقم منهم بالهتك وكشف العورات، لا بالإفك والألسن كما فعلوا مع أسرته، وخاصة «كريزو النمّام».
تستمر أحداث الرواية عبر سرد يعتمد على تعدد الأصوات، لكشف ملابسات وإرهاصات وعقد عوالم هذه الشخصية الشاذة المعقدة والظروف المحيطة بها، لدرجة تشعر فيها كقارئ أن سلوك «رضوان» النتن وممارساته القذرة، هي أبشع من أن تُذْكَر في رواية، وهذا ما يجعل الروائي هيثم حسين يطرح علينا عبر روايته «إبرة الرعب» تساؤلات تكمن في الأبعاد النفسية والجنسية للمجرمين، وهل يولد المجرم مجرماً، أم إن المجتمع هو الذي يسلبه إنسانيته ويخلق منه وحشاً؟ وهل مؤسسات الدولة المتآكلة بالفساد هي المسؤولة عن تحريض وتأهيل ذوي النوازع الإجرامية، ما دامت تضمن لهم -باسم القانون- النمو والاستمرار والحماية؟ وهل بعض أخلاق اليوم الشائنة هي نتاج طفولة الأمس البائسة؟!
الرواية تتناول قضية الاتجار بالأعضاء البشرية، التي يمارسها «رضوان» ضمن مسيرته الإجرامية، إذ يرى أن نقل الأعضاء أمر مباح، إن كان بالسرقة أو بالشراء، لأنه هو الكفيل بمعالجة خلل الطبيعة، التي منحت السيد جسماً غير مكتمل والمشردَ جسماً مكتملاً!
تُقحمنا «إبرة الرعب» في قضايا شائكة، ومسائل مثار جدل على مستوى العالم العربي، لعلّ من أبرزها التحول الجنسي، كما حدث مع «نضال» الذي استعاد كينونته الأنثوية عبر العمليات الجراحية والأدوية، ليتخلص من رمز ذكورته الناقصة، والتي وسمته بـ»اللوطي والشاذ والطنط» من وجهة نظر مجتمعات لم تعِ أن منظومة كينونته تملي عليه أنه مشروع امرأة لا مشروع رجل.
تقع الرواية في مائة وتسعين صفحة، وربما أنها كانت تحتاج إلى مائة صفحة أخرى، كي تتضح نهاية «رضوان»، بدلاً من أن تُترك مفتوحة، مما ترك انطباعاً للقارئ أن الرواية لم تكتمل بعد.

عن: الرأي