محمد بيجو
يَمْشِي الذّئْبُ فِي صَمْتٍ دَامٍ
يَجُرُّ لَيْلَهُ خَلْفَهُ كَجُرْحٍ مَفْتُوحٍ
خُطَاهُ تَتَكَسَّرُ عَلَى الحَصَى
وَالعتْمَةُ تَتَدَلَّى عَلَى كَتِفَيْهِ
كَطَوْقٍ مِنْ حَدِيدْ.
يَعْويْ
لكِنْ صَوْتهُ يَتَفَتَّتُ فِي الهَوَاءِ
كَأَنَّ الرِّيحَ تَخُونُهُ
كَأَنَّ القَمَرَ أَصَمُّ
يُدِيرُ وَجْهَهُ بَعِيداً
لَا يُرِيدُ أَنْ يَرَى دَماً آخَرَ.
الأَشْجَارُ تصْغِي بِلَا حرَاكٍ
تَتَظَاهَرُ بِالجُمُودِ
لكِنَّ جُذوعَهَا تَرْتَجِفُ سِرّاً
كَأَنَّهَا تَعْرِفُ أَنَّ كُلَّ عوَاءٍ
هُوَ اعْتِرَافٌ لَمْ يُسْمَعْ
أَوْ صَلَاةٌ لَنْ تَصِلْ.
الغَابَةُ مَقْبَرَةٌ وَاسِعَةٌ
تَحْتَ كُلِّ حَجَرٍ ظِلٌّ بَارِدٌ
تَحْتَ كُلِّ غُصْنٍ ذَاكِرَةٌ مَقْطُوعَةٌ
يَمْشِي فِيهَا الذّئْبُ
كَنَاجٍ مِنْ مَوْتٍ ناقِصٍ
كُلُّ خُطْوَةٍ نَزِيفٌ آخَرٌ
يَتْرُكُ أَثَرَهُ عَلَى التُّرَابِ الحَزِينْ.
يَتَشَمَّمُ الأَرْضَ
يَبْحَثُ عَنْ صَدَى صَوْتِهِ القَدِيمِ
عَنْ بَصْمَةِ أَنْيَابِهِ فِي صَرْخَةٍ مَنْسِيَّةٍ
عَنْ حَيَاةٍ عَبَرَتْ هُنَا
وَتَرَكَتْ لَهُ أَشْلَاءَ صَدَاهَا.
كُلَّمَا تَوَقَّفَ لِيَسْتَرِيحَ
نَزَفَ مِنْ صَدْرِهِ عوَاء آخَرْ
كَأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ رِئَةً
بَلْ جُرْحاً يَتَنَفَّسُ
جُرْحاً يَفِيضُ عَلَى اللَّيْلِ
لَا يَنَامُ
وَلَا يَهْدَأُ.
وَالقَمَرُ هُنَاكْ
يَتَدَلَّى كَعَيْنٍ حَائِرَةٍ
يُرَاقِبُ وَلَا يَرَى
يَسْمَعُ وَلَا يُصْغِي
يُضِيءُ لِلْعَالَمِ كُلِّهِ
إِلَّا لِهَذَا الذّئْبِ
الَّذِي يَجُرُّ جِرَاحَهُ
كَقَدَرٍ لَا يَفْنَى.
الرِّيحُ تَعْوِي فِي الأُفُقِ
تُحَرِّكُ الظّلَالَ بَيْنَ الأَشْجَارْ
تَتَسَلَّلُ إلى أُذْنِهِ
تُرَدِّدُ لَهُ أَصْوَاتاً بَعِيدَةً
ذِكْرَيَاتُ أَمْجَادٍ قَدِيمَةٍ
حِينَ كَانَ صَوْتُهُ قُوَّةً
وَحِينَ كَانَ اللَّيْلُ مُجَرَّدَ حَدِيقَةٍ لِلْعُبُورْ.
الذّئْبُ يَغْمِضُ عَيْنَيْهِ
وَيَسْتَرْجِعُ صُوَراً مِنْ زَمَنٍ بَعيدْ
أَيَّامُ العوَاءِ الجَمَاعِيِّ
وَالْقَمَرُ يُضِيءُ طَرِيقَ الصَّيدْ
وَالغَابَةُ كُلُّهَا تُصْغِي
لَا صَمْتٌ، وَلَا جُرْحٌ
فَقَطْ نَبْضَاتُ القُوَّةِ وَالحَيَاةْ.
ثُمَّ يَفْتَحُ قَلْبَهُ عَلَى اللَّيْلِ مَرَّةً أُخْرَى
يَبْتَلِعُ ذِكْرَيَاتهِ
وَيَتْرُكُهَا مَعَ العتْمَةِ
ثُمَّ يَسْقُطْ.
لَمْ يَسْمَعْ أَحَدٌ صَرْخَتَهُ
لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ وَهُوَ يَسْقُطُ
الرِّيحُ وَحْدَهَا أَخَذَتْ صَوْتَهُ
وَرَفَعَتْهُ فِي الغَابَةِ مِثْلَ نَشِيدٍ مَكْسُورٍ
تُرَدِّدُهُ الصُّخُورُ
وَالظلَالُ
وَالسُّهُولُ البَعِيدَةُ
كَمَرْثِيَّةٍ طَوِيلَةٍ
لِذِئْبٍ وَحِيدٍ
مَاتَ وَهُوَ يَعُضُّ حُزْنَهُ
وَيَتْرُكُ لِلْعَالَمِ صَمْتاً
أَثْقَلَ مِنْ أَيِّ عوَاءٍ
وَمَجْداً لَمْ يَعُدْ لَهُ إِلَّا فِي العَدَمْ.