جرعةٌ مِن الأمكنةِ يا أبي، جرعةً واحدةً تَكفيني ..
((1)) نكبة.
أنا المتشظِّي كحبَّةِ قمحٍ في “طرطركا عَفدو”.كانت أمِّي تَلفظها دون أن تضحكْ .. وكنَّا صغاراً بما فيه الكفاية، كي نُخبِّئ في ملامحنا أضرحةً مقدَّسة، بالت كلاب الحيِّ على شواهدها لأعوامٍ.لا نغمزُ أو نلمزُ بعضنا، حين تلفظُ أمي كلمة “طرطرك”إلا أننا نعتصرُ في أعماقِنا جيلاً من الحُفاةِ العراةِ المحترمين، الذين لا يعرِفون أسماء أعضائِهم التناسليَّةَ، حتى يَكبَرون، وإن لفظوها يوماً، تلعثَموا وشارفوا على البكاءِ .. ياااا لجيش التُّعساء المحترمينَ في دمائِنا يا أبي !
(طرطركا عفدو)، مجرشة (مطحنة)آلية موضوعة على لوحٍ صفيحٍ خلفَ جرَّار “فرات” الضَّئيل. لصاحبِها المدعو “عفدو”. وعفدو، هو رجمٌ بغيبِ الألقابِ في عامودا.
(عفدو) .. هو تجربةُ الكردي مع دينٍ ماتَ الإلهُ فيهِ، كأيِّ أبٍ يموتُ في عامودا. نتيجةَ الإكثار مِن التدخينِ، وأكل الدهون بكميات كبيرة، والنوم لساعاتِ العصرِ مثل كلبٍ ظمآن، والإكثار من الحديثِ عن المطرِ.. ماتَ إلهُ عامودا، ولا يزالون في بيوتهِ يقيمونَ بصمتٍ طقوسَ العزاء، ويسمّونها، لأنَّهم متخمونَ بالتاريخ والذاكرة، يسموّنها صلاةً. لكلّ تفصيلٍ في عامودا (شخصاً كان، أوشارعاً، أومهنةً، وحتى المطحنة) اسمين أو ثلاثة .. للمطحنةِ اسمٌ يليقُ بصخبِها (طرطرك)، ولصاحبِها، عبد الرحمن أو عبد الرزاق، اسم يليقُ بعبثيَّة عامودا (عفدو).
قد يكون اسمهُ عبد الله، عبد القادر وحتى عبد المطّلب .. لم يكن يستفزُّني الاسم الثاني، بقدرِ ما كانَ صخب طاحونتهِ يشعرني بالقلق. قرقعةٌ بليدةٌ ومستمرَّة، كأنَّها أفقٌ للميكانيكِ في أكثرِ أطوارهِ سذاجةً. ومِن هنا، أعتقدُ جازماً، بأن العاموديون اتَّفقوا على تسميةِ الطاحونةِ بـ “طرطرك”، استناداً للصوتِ الذي كانتْ تُصدرهُ، حين تبدأُ مسنَّناتها بطحن الحبوبِ.. طرر طرر طرطرطرطر..، وأُلحقتْ الكافُ بالصَّوتِ، لإنتاجِ الاسمِ والمعنى.
كانتْ نسوةُ الحيِّ تجلسنَ على الحجارةِ الكبيرةِ الموزَّعةِ على زوايا الشارعِ، بحكمةِ رجالاتِ الحي. ليس ثمَّة أحاديثٌ مجديةٌ في هذه الاجتماعاتِ المنعقدة على فخاخِ الحيِّ الفقير وأنغام “طرطركا عفدو”.لوهلةٍ يتصبَّب الزَّبدُ من أفواهِ النسوة، وهنَ يلوكونَ حَكايا الأخريات الغائبات. وأمي المنهمِكة بترطيبِ القمحِ قُبيل سَكبهِ في فوهةِ المطحنة، أبرزُ الغائبات .. لم تكنْ تلكَ النسوةُ تَستلطفنَ أمي، ولا هي بدورها، كانتْ قادرةً على حبِّهن.لماذا كُنتم تحاولونَ إقناعَنا حينها، بأن أهالي الحي يحبُّون بعضهم كأسرةٍ واحدةٍ يا أبي؟
لم أكن حينها أدركُ بأنَّ جيرانَنا يَكرهوننا أضعافَ ما كنَّا نكرههم، لكنني كنتُ أعرفُ تماماً، بأنَّ أفرادَ الأسرةِ الواحدةِ، بحدِّ ذاتها، لم يكونوا يُحبُّون بَعضهم يا أبي .. وحقِّ تيهي عن قبركَ، الذي زرتُه مرَّةً واحدةً ومصادفةً، كنتُ أعلمُ هذا. لكنَّني لم أُخبركَ بذلكَ يا أبي ..وخزٌ أليمٌ أن ترى أطفالكَ يحقدون على بعضِهم. أليسَ ثمَّة أبٌ لهذا البلد أيضاً يا أبي، ليخشاهُ الأطفالُ ويخفوا عنهُ سكاكينَهم، والحناجرَ التي قطفوها، أو أمَّاً تصنعُ من السنابلِ الخضراء المحترقة فريكاً طازجاً، كما كانت تفعلُ أمي، وهي تدلقُ تعبكَ المحروق في صحنٍ وتبتسم، كنا نلتهمُ خيباتكَ وأنت تضحك يا أبي! أليس ثمَّة إلهٌ يقولُ للعاموديينَ أن ارتداءَهم لملابسِهم معكوفةً في صلاةِ الاستسقاء، يضحكهُ جدَّاً ؟
بهزاد حاج حمو