الأمر الذي انعكس في الكتابة الصحافيّة ذاتها, وفي المواضيع الصحافيّة. فكثرت العناوين السطحية والمقاربات الهشّة التجميليّة حيناً والإقصائيّة للآخر في أحيان, في قضايا المجتمع والثقافة, مع اعتماد كّليّ على أخبار وكالة الأنباء السورية «سانا» كمصدر شبه وحيد للخبر السياسي, الأمر الذي لم يكن اختيارياً بقدر ما كان إجبارياً.
لهذه الأسباب, ولأسباب أخرى كثيرة مرتبطة بوضع الإعـــلام في سوريا, وجد قسم من الإعـــلاميين الشـــباب ممّن رفضوا القوالب الجـــاهزة في الصفحات الثقافية وفي صفحات المجتمع هامشاً ضـــئيلاً لكــلماتهم على الرغم من كلّ شيء.
اليوم, وبعد اكثر من ثلاث سنوات على أكبر أزمة إنسانيّة – سياسيّة- مجتمعيّة عرفتها سوريا في تاريخها الحديث, فقدت البلاد خلالها مُعظم شبابها وأهم إعلامييها, ما بين معتقلٍ او مخطوف او مفقود, وما بين قتيل او مُهاجر. ونظراً لحساسيّة الأوضاع الأمنيّة المرتبطة بتفاقم الصراع العسكري فقد ازدادت الرقابة حدّة, بكل مجالاتها ومستوياتها, وفي مختلف المناطق السورية، أياً كانت الجهة المُسيطرة عسكرياً.
ونتحدّث هنا عن الرقابة المنوطة بالآخر الرقيب: الموظّف الرسمي أياً كانت الجهة التي يستمد سلطته منها, حكوميّة رسميّة أم قوّة عسكرية, أم كانت سلطة دينية وهبها لنفسه كمُجاهد مستعد للقتل كيفما شاء ورأى. والرقابة الذاتية التي أفرزتها عقود تكميم الأفواه والعقوبات المُجحفة بحق معتقلي الرأي خاصة, وفاقمت منها صور الرؤوس المقطوعة بكل تدنيسٍ للكرامة الإنسانيّة لإعلاميين وناشطين إعلاميين, عربا وسوريين وأجانب.
في سوريا يكتب مجهولو الأسماء على جدارٍ شوّهته القذائف في قرية صغيرة, بعيدة, خضراء اسمها «سراقب»: «ستنتهي الحرب يوماً, وأعودُ إلى قصيدتي». ولكن كيف السبيل إلى الكتابة في زمن الحرب؟ كيف نكتب قصيدةً, وكيف نكتب عن القصيدةِ؟ كيف نهرب من الموت القادم إلى ثقافة حياة أخرى ووجودٍ مُشته ومُتخيّل؟ إذ من جديد, وعلى ندرة الحدث الثقافي في بلد يشهد حرباً أهليّة يُقتل المرء فيها في بعض المناطق الخارجة عن سيطرة القوّات الحكومية بسبب لباسه وقبل أن يتفوّه حتى برأيه, عادت الصحافة الثقافيّة وقضايا المجتمع لتبرز كمساحةً لتفريغ الكبت الإعلامي- إن صحّ القول.
إلاّ أنّ المعوّقات زادت حتى بلغت حداً مأساويا يثير الضحك والبكاء في الوقت ذاته.. إذ تبدأ رحلة الكتابة اليوم من «نقطة ما قبل الصفر», أي الكهرباء. فيوّقّت الصحافي كتابته لا بحسب برنامج عمله ومزاجه الشخصي, وهما رفاهيتان اليوم, بل بحسب توفر الكهرباء مصدر الطاقة الضروري لتشغيل جهاز الكومبيوتر, أو بحسب استطاعة البطارية التي يمتلكها, لتبث الكهرباء في الجهاز الأصم. وليبدأ الصحافي «مرحلة اختبار الصبر» مع محاولات الدخول إلى الانترنت. هنا نتحدّث عن مستوى يقارب محاولات ولوج محرّك البحث «غوغل», أمر قد يستغرق في أحد مناطق وسط دمشق ما بين خمس إلى عشر دقائق, في حين لا يتطلّب أكثر من أجزاء من الثانية إلى ثانية في دول أخرى.
مع إتمام هذه المهمة, تبدأ «مرحلة المُفاجآت»، إذ ربما يحتاج الكاتب إلى مراجعة تاريخ كتابة النص المسرحي, جنسيّة أحد الممثلين أو المخرجين السينمائيين, تاريخ إنتاج الفيلم, كلمات أغنية, أياً كان فببساطة موقع «ويكبيديا» مُغلق. ومواقع أخرى عديدة يعرفها المتابعون للشأن الثقافي, دون أن يعرفوا سبب حجبها. يبدأ رد الفعل بأن يفتح الكاتب أحد برامج كسر الحجب ليعود ويجد نفسه في الدائرة الثانية «مرحلة اختبار الصبر», وهنا قد يطوّل الأمر إلى أكثر من عشر دقائق بعد أن ينجح في محاولة فتح البرنامج نفسه, ليأخذ تحميل صفحة من صفحات موقع «ويكيبيديا» ضعف المدّة, وبالتأكيد ما لا يقل عن 5-7 دقائق.
تترافق هذه العمليّات التقنيّة مع رقابة الكاتب الذاتية, والمستمرة على كلماته, ومحاولة صياغة أفكاره على ذاك الخط الرفيع كالشعرة الحاد كالسيف. فقد يمتعض لكتابته الثقافية ورأيّه ككاتب, هذا الطرف أو ذاك.
في مكان ما في هذه المرحلة, ينجح بعض الصحافيين بالتمسّك بذواتهم كصحافيين أكثر من كونهم مُجرّد ناقلين للخبر, باذلين جهدهم لتقديم أفضل ما لديهم وفق قواعد العمل الإعلامي, وهنا لا نتحدّث عن الموضوعيّة والحياد, وإن تفوّق البعض وقاربوا هذا الحد, وإنمّا نتحدث عن مستوى الكتابة ذاتها. من خلال الابتعاد عن الوصف الإنشائي, دّقة المعلومة, الجمل القصيرة والمُكثّفة, الأفكار الواضحة واللغة السلسة.
وأخيراً وبعد زمن وسطي يقارب الساعتين ربما يُنهي الكاتب مقالته المتواضعة, ليعود مرّة ثانية إلى مرحلة «اختبار الصبر» مع محاولات مستمرة ولا يمكن الفكاك منها للعثور على صور مناسبة أو تحميل الصور التي التقطها لموضوعه على شبكة الانترنت, وإرسال مقالته للنشر.
ثمّ يعود الكاتب ومن جديد إلى مرحلة وجوديّة هي «نقطة الصفر», حيث يجلس في انتظار نشر مقاله, وترقب رد فعل الجهات المسؤولة رقابياً وحسابياً عليه, وفي الصحافة الثقافية التي تأخذ شكل العمل اليومي, يتوجب على الصحافي أن يبحث في الوقت ذاته عن موضوعه القادم, وأن يسعى إليه.
في كتابه الذي خطّ فيه الشاعر الفلسطيني محمود درويش شهادته عن اجتياح بيروت المعنون «ذاكرة للنسيان»- 1987 يكتب: (إننّا نريد أن نُحرّر أنفسنا وبلادنا وعقولنا, وأن نعيش عصرنا بجدارة وكبرياء. وما دمنا نكتب فإنّنا نُعبّر عن إيمانٍ بفاعليّة الكتابة. من هنا، لا نشعر بأنّنا أقلية. نُعلن- إنّنا الأقليّة- الأغلبيّة. ونُعلن أنّنا قادمون من هذا الزمن… لا من الماضي ولا من المستقبل).
أجل.. في سوريا, في مختلف مناطقها, لم نـــزل مؤمــنين بالكتابة وحقنا في الكتابة وفاعليّة هذه الكتابة, محاولين عيش عصرنا الموحش هذا بجدارةٍ وكبرياء.
عن القدس العربي