حسين جمو
أسست حرب 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023 بين حركة حماس وإسرائيل بيئة أمنية جديدة للإقليم برمّته؛ ومن المحتمل أن يؤدي إلى تغيير ارتباط «شرق الفرات» في سوريا من الحرب على تنظيم داعش، إلى تحول المنطقة – بحكم الأمر الواقع – إلى جزء من بيئة تحالف دولي أوسع بقيادة واشنطن، تتقاطع مع رؤية غير إيرانية لحل القضية الفلسطينية وأزمات المنطقة.
إن منطقة الإدارة الذاتية في سوريا تنزاح – بحكم الأمر الواقع- إلى أن تصبح جزءاً من معادلة دولية وإقليمية أوسع من الحرب على الإرهاب. وساهم في ذلك حسابات النظام السوري غير الدقيقة في شن هجمات مسلحة على قوات سوريا الديمقراطية والأهالي على طول شط الفرات في أوقات الأزمات الإقليمية، وكذلك هجمات الميليشيات العراقية على القواعد الأميركية القريبة من الحدود.
في حوار خاص مع «المونيتور» في نوفمبر/تشرين الثاني 2023، تحدّث القائد العام لقوات سوريا الديمقراطية (قسد) مظلوم عبدي عن الوضع في المنطقة خاصة بعد هجوم 7 أكتوبر/تشرين الأول الذي شنته حركة حماس وتداعياته على الجوار وموقف الكرد مما يحصل. وأكد في المقابلة التي تمت في 24 نوفمبر/تشرين الثاني، وتم تحريرها باللغة العربية من المركز الكردي للدراسات، رفضه أن تصبح مناطق الإدارة الذاتية في شمال وشرق سوريا ساحة تصفية حسابات بين الولايات المتحدة والميليشيات المدعومة من إيران، كاشفاً أن المجموعات المدعومة من إيران بدأت باستهداف المواقع العسكرية لقوات سوريا الديمقراطية. وأضاف أن الفشل في التوصل إلى حل عادل ومستدام للقضيتين الفلسطينية والكردية يظل أكبر مصدر لعدم الاستقرار في الشرق الأوسط، مديناً في الوقت ذاته هجوم حركة حماس ضد المدنيين. لكن قائد «قسد» لم يغفل في الحوار عن التأكيد على نقطة التحول الذي أحدثه هجوم «حماس» للشرق الأوسط.
إذاً، كيف يحدث هذا الانزياح لمنطقة الإدارة الذاتية في سوريا من معادلة محلية أمنية إلى وضع استراتيجي أمني عالي الخطورة والأهمية؟
في مثل هذه الأيام قبل أربع سنوات، كانت النقاشات محتدمة حول المسار الذي ستتخذه السياسة الخارجية الأميركية على الشرق الأوسط بناء على الفائز في الانتخابات حيث كان الرئيس دونالد ترامب يتنافس مع المرشح الديمقراطي جو بايدن. حينها، حسمت الكيانات السياسية في الشرق الأوسط، دولاً و أحزاباً، تمنياتها مسبقاً قبل نتائج الانتخابات. وكان الرئيس التركي رجب طيب أردوغان من أكثر المتضررين من فوز بايدن. فخلال السنوات الأربع الماضية، لم يجرؤ على تحريك جندي واحد للتوغل في سوريا. ولو استمر ترامب في الرئاسة حتى الآن، من المرجح أن المشهد كان سيكون مختلفاً في روجآفا وشمال وشرق وسوريا.
قبل إعلان بايدن تنحيه عن الانتخابات، رجحت استطلاعات الرأي فوزاً كاسحاً لترامب. وبالفعل، بدأت الكيانات الشرق أوسطية المستفيدة من فترة ترامب السابقة بإعداد العدة والخطط للمرحلة القادمة، من بينها طبعاً خطط الغزو التركي المستقبلية والجاهزة للتنفيذ والتي لا تنتظر سوى الشخص المناسب في البيت الأبيض. فيما حبست القوى المتضررة من ترامب أنفاسها، وعلى رأسها إيران. لكن موازين الاستطلاعات تغيرت منذ ترشيح الحزب الديمقراطي لنائبة الرئيس كامالا هاريس بدلاً من بايدن. التقط الليبراليون الأميركيون أنفاسهم حين بدأت المؤشرات تشير إلى أن هاريس باتت أقرب إلى الفوز وفق استطلاعات رأي متتابعة. ومعها، باتت القوى الشرق أوسطية تعيد حساباتها في ضوء التغيرات الأخيرة في الساحة الأميركية.
قبل 7 أكتوبر/ تشرين الأول، كانت البيئة الأمنية الإقليمية متمحورة حول حروب «الربيع العربي» الأهلية وخصوصاً تنظيم داعش. والواقع، أن جميع الاتجاهات السياسية المحلية والإقليمية والدولية شيدت على هذه الأرضية، أي «الربيع العربي» وموجات الإرهاب الواسعة المنبثقة من الدول والتنظيمات خلال السنوات الـ13 الماضية. لقد تأسست الإدارة الذاتية، ثم قوات سوريا الديمقراطية، من زخم الصراع مع التنظيمات الإسلامية المسلحة. وتأسس التدخل التركي وحملات الاحتلال الثلاث (جرابلس – عفرين – سريكانيه/راس العين) من فشل التنظيمات الإسلامية في القضاء على وحدات حماية الشعب/قوات سوريا الديمقراطية، فآثرت تنفيذ أهدافها مباشرة بعمليات عسكرية متتالية، وما زالت مرشحة للاستئناف في أي لحظة إذا ما كانت الظروف في واشنطن تسمح بذلك. لن يتم قرار أي توغل تركي جديد بدون ضوء أخضر من واشنطن. لذلك، فإن مسار الشرق الأوسط يتحدد فعلياً بناء على انتخاب الرئيس الجديد في الولايات المتحدة. كذلك في العراق، كان تشكيل الخريطة السياسية المحلية والنفوذ الإقليمي بناء على نتائج الحرب بين القوى الكردية والشيعية وحلفائهما من العرب السنة من جهة، وتنظيم داعش والمتطرفين الإسلاميين والبعثيين من جهة أخرى.
الآن، هناك مؤشرات على أن الهياكل السياسية المبنية على اصطفافات «الربيع العربي» تلاشت في السابع من أكتوبر/تشرين الأول. وباتت المنطقة على أعتاب عهد جديد بين القوى القديمة، قوى ما قبل «الربيع العربي» التي عادت لتحتل المشهد مجدداً، من حركة حماس إلى حزب الله مروراً بجماعة الحوثي وتنظيمات الإخوان المسلمين التي تبحث عن حياة جديدة «من فلسطين» بعد موت «الربيع العربي».
كيف ستبدو المنطقة بدون بيئة «الربيع العربي»؟ ماذا عن الهياكل السياسية والعسكرية التي ظهرت في حقبة «الربيع العربي»؟
الواقع أن العامل الأعلى في تشكيل السياسة الأميركية، الحالية والمقبلة، يكمن في المسار الذي يختاره سيد البيت الأبيض لتطبيق الاستراتيجية الأميركية.
في أغسطس/آب 2019، حين انسحبت الولايات المتحدة رسمياً من معاهدة القوى النووية المتوسطة المدى التي كانت أبرمتها مع روسيا، كانت دوائر القرار الأميركية تعيد تموضع استراتيجياتها بشكل يتناسب مع «العالم الجديد». فالعالم القديم الذي تنتمي إليه المعاهدات النووية مع روسيا يعود في جذوره إلى نظرة للعالم بمفاهيم الحرب الباردة، حيث كانت هناك قوتان رئيسيتان في العالم: الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي.
ضمن هذا الإطار، يمكن وضع الانسحاب الأميركي من معاهدة الحد من الأسلحة متوسطة المدى وطلبها، بإلحاح، انضمام الصين إلى معاهدة «نيو ستارت» التي وقعها كل من الرئيسيين باراك أوباما وديمتري مدفيديف في أبريل/نيسان 2010 في براغ.
وشيئاً فشيئاً، توسّع واشنطن نظرتها الاستراتيجية لمحور الأمن العالمي، بعد أن كانت القارة الأوروبية محور هذه الاستراتيجية منذ نهاية الحرب العالمية الثانية عام 1945. وباتت تتطلع في عهد ترامب لتوسيع القيود على قوة جديدة، هي الصين، عبر ضمها للمعاهدات الاستراتيجية الثنائية بين واشنطن وموسكو.
كان ترامب يحاول جاهداً نقل الساحة الرئيسية للأولويات من الرقعة القارية الأوروبية والشرق أوسطية إلى شرق آسيا وبحر الصين الجنوبي والمحيط الهادي. لكن التطورات غيرت هذا الاتجاه. فقد هُزم ترامب في انتخابات 2020 وغزت روسيا شرق أوكرانيا في 2022، ثم هاجمت حركة حماس إسرائيل في 2023، وما تبع ذلك من حرب إسرائيل المستمرة على قطاع غزة.
لم تعتمد دوائر القرار الأميركية على توسيع الرؤية الشاملة بحيث تصبح الصين إحدى ركائز «العالم المعادي» إلى جانب روسيا، بل حلّت محل روسيا نفسها في أولوية المواجهة لدى فريق ترامب السابق. وهذا هو جوهر شعور طيف كبير من المحللين بفقدان السياسات الأميركية توازنها في عهد ترامب. ومن المرجح ان يتكرر ذلك في حال فاز في الانتخابات أمام هاريس.
تفيد العودة إلى ركائز وثيقة استراتيجية الأمن القومي الأميركي في توضيح هذه الإشكالية.
في نهاية العام 2017، أعلنت الولايات المتحدة استراتيجيتها الجديدة للأمن القومي، لتطوي بذلك صفحة 15 عاماً من «الحرب على الإرهاب»، وهي السنوات التي بنت فيها كل من روسيا والصين فضاءات توسعية للنفوذ، كلٌ على طريقتها. لذا، أعلنت وثيقة الاستراتيجية الدفاعية الأميركية أن «المنافسة الاستراتيجية بين الدول، وليس الإرهاب، هي الآن الشاغل الرئيسي للأمن القومي في الولايات المتحدة». فالوثيقة الأميركية التي خضعت لنقاش مطول لاحقاً، حيث أعلنها وزير الدفاع جيم ماتيس في مارس/آذار 2018، حددت خصمين استراتيجيين يسعيان للنيل من مكانة واشنطن كقوة عظمى أولى في العالم، هما روسيا والصين. لكن لسبب لم يتم تفسيره بشكل معلن، فإن هناك خياران أميركيان لتطبيق وثيقة الأمن القومي، وكلاهما يقومان باختيار خصم واحد من الخصمين اللذين حددتهما الوثيقة الاستراتيجية.
تبنى ترامب توجيه السياسة الأميركية برمّتها لإيقاف التوسع الصيني، الخشن والناعم، العسكري والتقني. بينما ركز الديمقراطيون في عهد بايدن، وحلفاء واشنطن التقليديون في أوروبا، على روسيا.
وعلى حد تعبير مستشار الأمن القومي الأميركي جيك سوليفان في مقال نشرته «فورين أفيرز» في خريف 2023: «لكن تحتاج واشنطن وبكين إلى معرفة كيفية إدارة المنافسة لتقليل التوترات وإيجاد طريقة للمضي قدماً في مواجهة التحديات المشتركة. ولهذا السبب، تعمل إدارة بايدن على تكثيف الدبلوماسية الأميركية مع الصين والحفاظ على قنوات الاتصال الحالية وإنشاء قنوات جديدة».
في صيف 2021، نشرت مؤسسة الأبحاث والتطوير الأميركية «راند» تحليلاً بعنوان «سعي الصين للتفوق العالمي». جاءت الدراسة في 253 صفحة، وتطرق فيها الباحثون إلى الشرق الأوسط في ميزان التنافس مع الصين. استعرضت الدراسة أهمية الشرق الأوسط كمنطقة تستحق التركيز رغم أن الولايات المتحدة تقوم بنقل مراكز القوة الاستراتيجية إلى المحيطين الهندي والهادي، وحذر الباحثان من أن استثمار الصين في الدول الشريكة لها في الشرق الأوسط قد يؤثر على قدرة الولايات المتحدة على المنافسة في منطقة المحيطين الهندي والهادئ وعلى المستوى العالمي. وهنا، توصي الدراسة وزارة الدفاع، على عكس الاتجاه السائد تحليلياً وسياسياً، بـ«الاستثمار في الحفاظ على وجود كبير في الشرق الأوسط وأفريقيا لاستكمال المنافسة في منطقة المحيطين الهندي والهادئ».
في كل الأحوال، لا يمكن إغفال دور ترامب السلبي في تمكين خصوم الولايات المتحدة ضد حلفائها. وحدث هذا في جرأة روسيا على غزو أوكرانيا، رغم أن ترامب يزعم أن سياسات بايدن هي المسؤولة عن هذا الانهيار الأمني على حدود الجناح الشرقي لحلف الناتو. وكذلك، لا يمكن فصل هجوم «حماس» على إسرائيل عن السياسات التي أسسها ترامب تجاه القضية الفلسطينية التي باتت هامشية مقارنة بأي قضية مستجدة في المنطقة. ونالت سياسات الحزب الجمهوري المتمثلة في «إخلاء الساحات» من مكاسب دول وجماعات عديدة، على رأسها حلفاء واشنطن في المنطقة أو اللاعبون غير الأثرياء، مثل الكرد، فيما ترى هذه الجماعات نفسها قريبة من واشنطن.
بدلاً من بناء تحالفات واسعة لتقليص الهامش الاستراتيجي لروسيا في الشرق الأوسط وأوروبا، قام ترامب بخطوات معاكسة، مثل الانسحاب المفاجئ وغير المكتمل من شرق سوريا ودخول روسيا إلى القواعد الأميركية التي بنتها واشنطن حول مدينة الرقة، فضلاً عن السماح لتركيا باحتلال شريط حدودي واسع كان تحت سيطرة قوات سوريا الديمقراطية، وكذلك تمكين أنقرة من الوصول إلى الطريق الدولي الرئيسية بين غرب سوريا وشرقها. وتهاونت إدارته مع الانزياح التركي إلى روسيا وشراء منظومة «إس 400» حيث بدأت الإدارة تطبيق سياسة «إخلاء الساحات» في سوريا والشرق الأوسط، وتم إخلاءها – كما في نموذج شرق سوريا – لصالح تركيا وروسيا.
كل هذه العوامل، كان يبررها ترامب أن تركيزه يتمحور في مواجهة الصين وليس إهدار الأموال على سوريا وحماية أوروبا. وبالتالي، فقدت الاستراتيجية الأميركية للأمن القومي أحد جناحيها، وهو الجناح الروسي، إذ تم إخلاء الساحة أمام الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في سوريا وأوكرانيا وشرق أوروبا، فضلاً عن تعزيز القبضة الروسية على فضائها الحيوي السابق في آسيا الوسطى وحتى أفغانستان.
أمام هذا الأسلوب في الإدارة، تشعر روسيا بارتياح أكبر في حال واصل ترامب هذه السياسة. وبالتالي، من مصلحتها وجود رئيس يقوم بإخلاء الساحات الأميركية أمام روسيا، وهو بالضبط ما يصرح ترامب أنه سيفعله مجدداً في حال فاز في الانتخابات.
هذا التموضع ضد الصين والتقليل من الانشغال تجاه روسيا هو تفسير يبدو أكثر إقناعاً لتقرير قدمته الاستخبارات الأمريكية في 7 أغسطس/آب 2020 حول تصورها الأولي لمحاولات الدول الأجنبية التدخل في الانتخابات الأميركية واتجاهات هذه الدول أيضاً في دعم أو مناهضة أي من المرشحين. ووفق تقدير مدير المركز الوطني للأمن ومكافحة التجسس وليام إيفانينا، فإن ثلاث دول مريبة حاولت التدخل، هي روسيا والصين وإيران. وقدّم ملمحاً سريعاً، لكن صادماً أيضاً، ظهرت فيه كل من روسيا والصين على النقيض في هذه المسألة، وهو ما يحصل في الحملة الانتخابية الحالية أيضاً بين هاريس وترامب، وفق تسريبات وتقارير أمنية.
وخلاصة الاستخبارات هي أن إيران سعت في 2020 إلى إضعاف ترامب، فيما روسيا تستخدم عدة أدوات لتشويه سمعة بايدن. ولا يمكن استغراب عدم توافق الحسابات الاستراتيجية الروسية عن الإيرانية نظراً لضيق الأفق الاستراتيجي لطهران مقارنة بموسكو على الساحة الدولية. لذلك، فإن ما لم يكن اعتيادياً أن تكون الصين، وفق التقييم الاستخباراتي الأميركي «تفضّل هزيمة ترامب». الواقع أن دعم روسيا والصين لمرشحين متنافسين في الانتخابات في 2020 و2024 ليس اختلافاً بسيطاً. فالرئيس القادم معني بتحديد الوجهة الاستراتيجية الأميركية تجاه الخارج. ويؤثر خيار الناخب الأميركي مباشرة على الدول الكبرى مثل الصين وروسيا، سواء سلباً أو إيجاباً.
إن الالتزام الأميركي تجاه الشركاء الأمنيين في شمال وشرق سوريا مرتبط بما إذا كانت الولايات المتحدة ستعيد تعريف هذه الشراكة بما هو أبعد من مكافحة تنظيم داعش الإرهابي وإدخالها في إطار أمني جديد بالتوازي مع مساعي الولايات المتحدة نقل ثقلها الاستراتيجي إلى منطقة المحيط الهادئ، والتي تواجه عقبات كبرى جراء المخاطر المحدقة بإسرائيل واضطرار الولايات المتحدة إلى التواجد القوي في محيط إسرائيل عسكرياً. وقد تضطر الولايات المتحدة إلى إعادة النظر في كافة خططها طويلة الأمد في إخلاء الشرق الأوسط، بما في ذلك إعادة تعريف وجودها في شمال و شرق سوريا، ليصبح في إطار شامل وليس محصوراً فقط بمحاربة تنظيم داعش. ومثل هذا التغيير ليس سهلاً من الناحية التشريعية في الولايات المتحدة، ويتطلب تجديد التفويض من الكونغرس لتصبح منطقة شمال وشرق سوريا (الإدارة الذاتية) ضمن الأصول الاستراتيجية للاستقرار إلى جانب حلفاء الولايات المتحدة، مثل دول الخليج والأردن.
المصدر: المركز الكردي للدراسات