نظريتان
يشير الكاتب إلى أن بحثه يرتكز على نظريتين أساسيتين في تفسيره للأحداث التي أجريت في العديد من الدول العربية، والعلاقة القائمة بين الإعلام الجديد وانتفاضات الربيع العربي. النظرية الأولى هي «نظرية التعلم الاجتماعي» وتقوم على مبدأ الحتمية التبادلية في عملية التعلم من حيث التفاعل بين ثلاثة مكونات رئيسية هي: السلوك، والمحددات المرتبطة بالشخص، والمحددات البيئية. وتنطلق هذه النظرية «من افتراض رئيس مفاده أن الإنسان كائن اجتماعي يعيش ضمن مجموعات من الأفراد يتفاعل معها ويؤثر ويتأثر فيها، وبذلك فهو يلاحظ سلوكيات الأفراد الآخرين وعاداتهم واتجاهاتهم ويعمل على تعلمها من خلال الملاحظة والتقليد». انطلاقاً من هذه النظرية جرت قراءة التقليد الذي سارت عليه بلدان عربية في التمثل بالنموذج التونسي وإطلاق انتفاضات وحّدها شعار «الشعب يريد إسقاط النظام». اما النظرية الثانية فيه «نظرية التحولات» التي تتمحور حول المسائل الآتية: «كلما طرأ تطور على وسائل الاتصال والإعلام، ينعكس هذا التطور على مجريات الحياة اليومية للناس بصورة تزيد من وعيهم وقدرتهم على تشخيص أفضل السبل للتغلب على المشاكل التي تعترضهم في معيشتهم. وتؤثر المعرفة وتكنولوجيا المعلومات على إنتاج المجتمع، وطرق تعليمه، والعلاقات الاجتماعية بين أفراده وسياساته، ومختلف أوجه الحياة الأخرى».
استناداً إلى هاتين النظريتين، يحاول الكاتب قراءة الأحداث التي جرت في العالم العربي، ويعطي مكانة خاصة لمصر، في وصفها البلد الأكبر الذي شهد حشود الملايين من جميع مناطقها وأجبرت الرئيس حسني مبارك على التنحي. خلافاً لدراسات لم تجد في الانتفاضات سوى أدوار الشباب الذين استخدموا الفايسبوك في إسقاط الأنظمة، فإن العامل الأساسي الذي مكّن هؤلاء الشباب من الفعل عبر وسائل التواصل الاجتماعي، إنما يعود إلى ما كانت تعانيه المجتمعات العربية من استبداد وقهر وفقر وتهميش وبطالة… وهي أمور سببت احتقاناً في هذه المجتمعات، ساعدت وسائل التواصل التي أتقنها أجيال من الشباب المتعلم، في انفجار هذا الاحتقان على شكل تظاهرات تطالب بالتغيير. ولم يكن لوسائل التواصل أن تفعل فعلها في غياب هذه العناصر الموضوعية المسببة للتغيير. بصرف النظر عما آلت إليه الانتفاضات وتحول معظمها الى حروب أهلية، وما اصاب جيل الشباب من إحباط لاعتبار انفسهم أطلقوا الثورات، لكن قوى غيرهم قطفت ثمارها، وهو بحث آخر في عوامل الصعود والهبوط والانحسار الذي أصاب الانتفاضات العربية، الا انه يجب تسجيل الدور الهام لجيل الشباب الذي وظف التكنولوجيا الحديثة والثورة العلمية في النضال السياسي الشعبي والجماهيري، مما سيكون له مستقبلاً آثاره الفعلية.
انتفاضات واحباط
إن ما أصاب الانتفاضات العربية من انتكاسات وما رافقها من تراجع أدوار الشباب وصل الى حدود الاحباط، وما شهده تراجع دور وسائل الاتصال الاجتماعي في التأثير في الاحداث الجارية، كل ذلك لا يلغي الدور الهام الذي باتت تحتله هذه المواقع في الحياة العملية للشعوب العربية وفي نضالاتها السياسية. يشير الكاتب الى ان الموضوع يتجاوز العالم العربي، وان دور وسائل الاتصال مطروح على الصعيد العالمي. يستعيد دراسات لعلماء اجتماع غربيين يرى بعضهم أن ثورة الاتصالات ستكون لها نتائج إيجابية على صعيد نشر وتكريس قيم الحرية وحقوق الإنسان، وان تكنولوجيا المعلومات والاتصالات الجديدة ستوفر مساحة هائلة من الحرية، وان كل الثقافات ستستغل هذه التكنولوجيا، وتستفيد منها في الدفاع عن مصالحها، وان المجموعات الصامتة الآن سيصل، في يوم من الأيام، حديثها إلى الناس عبر وسائل الإعلام الجديدة متغلبة بذلك على القيود الـــسياسية. بل ان هناك من ذهب إلى أبعد من ذلك بالقول: «إن ثورة الاتصالات والإنترنت هي الأمل الأخير للديموقراطية». ويشير الكاتب الى تبني مدرسة «شيكاغو» لهذه الرؤية في أبحاثها الكثيرة التي تؤكد فيها أن تكنولوجيا الاتصال هي أفضل طريق لتحسين السياسات والثقافة وتوسيع نطاق الديموقراطية.
بات محسوماً ان وسائل الاتصال ستلعب دوراً أساسياً في حياة كل إنسان، ليس فقط في الحياة اليومية كذلك في الحياة السياسية. وقد باتت هذه الوسائل عنصراً ضرورياً وحتمياً لدى كل الفاعلين في السياسة، أفراداً ومؤسسات وأحزاب. إذا كانت المراحل الأولى من الانتفاضات العربية قد رفعت من شأن الفايسبوك ودوره، بما جعل البعض يذهب إلى تنسيب هذه الثورات إلى هذه الوسيلة، إلا أن أي قراءة موضوعية تضع دور هذه الوسيلة في موقعها الفعلي، بعيداً عن التضخيم والعدمية في الوقت نفسه. يمكن لوسائل التواصل الاجتماعي أن تحشد الملايين من الموقعين على صفحاتها، ويمكن لها أن تطرح البرامج التغييرية إلى أقصى حدودها، كما يمكن لها أن ترفع صوت النقد وفضح الفساد وممارسات السلطات والقهر الممارس على الشعوب. وغيرها، مما في حوزة وسائل التواصل لطرحه. لكن يبقى أن الممارسة على الأرض ومواجهة النظام القائم وقواه الأمنية مسألة مختلفة عن المحاربة على وسائل التواصل.
أثبتت التجارب العربية ان هذا الحشد على مواقع الإنترنت يبقى من دون فاعلية ما لم ترفده قوى على الأرض، حتى لو كانت محدودة العدد بمئات ستكون لها فاعلية تتجاوز ما هو موجود من ملايين على صفحات الإنترنت. هذا من دروس الانتفاضات العربية التي ذهب بعض المثقفين فيها الى إنكار دور بناء القوى على الأرض وسفهوا كل منطق التنظيم الحزبي وتأطير الجماهير في مؤسسات في وصفها من مخلفات الماضي الذي أنهته ثورات الفايسبوك. عاد التاريخ ليثبت ان وسائل الاتصال والتكنولوجيا الحديثة، تبقى فاعليتها مشروطة بمدى توافر القوى الشعبية المؤطرة في مؤسسات وتنظيمات فاعلة على الأِرض.
عن الحياة