أوبِّرا «أسطورة الحب» الروسية… باليه في صالات السينما! سليم البيك

 لم تكن للسينما دوماً وظيفة عرض أفلام وحسب، أقصد الروائية. نعرف أن السينما بدأت بعروض لإعلانات ومواد إخبارية، وأنها استُخدمت للدعايات والبروباغندا أثناء وما قبل الحرب العالمية الثانية، وأنها في حالتها الطبيعية تعرض أفلاماً وثائقية، أقول في حالتها الطبيعية لأن حالتها في معظم صالات بلادنا العربية ما دون الطبيعية، فتنحصر في أفلام روائية، وهذه الأخيرة تنحصر في ما يأتينا من هوليوود وبوليوود، وإمعاناً في الحصر أقول إن التجاري منها ما يأتينا، ما غايته الترفيه وحسب.
وكي لا أكون مجحفاً، أذكر أن الصالات هذه تعرض على شاشاتها نقلاً مباشراً مباريات كرة القدم في تصفيات كأس العالم، مرفَقة بضجيج المعلّق المتحمّس دوماً، هذا ما خبرته في صالات إماراتية، وهو ما يمكن تعميمه على باقي البلاد العربية، لطبيعة المجتمعات المتشابهة أولاً، ولطبيعة برامج صالات العرض ثانياً.
أما موضوع هذه الأسطر فهو النقل المباشر على شاشات السينما، إنما بما لن يجد جمهوراً وبما سيكون اقتراحاً جدّ خاسر عند العرب.
في عالم مختلف تماماً عمّا أوجزته أعلاه، عرضت سينما غومون في فرنسا، وما يزيد عن ألف صالة غيرها في أكثر من خمسين بلداً (حسب الإعلان المرافق للعرض) في وقت واحد، عرضت في بث مباشر أوبِّرا روسيّة بعنوان «أسطورة الحب» على مدار ثلاث ساعات و 45 دقيقة.
هذه المدّة، وطبيعة المعروض، ألن يسبّبا كارثة لأي صالة عربيّة إن تجرّأت في أن تكون ضمن الألف صالة هذه؟
أردت فعلاً الكتابة عن هذا العرض، عن السحر الذي نثرته الشاشة العملاقة على المشاهدين، لكن فكرةً كان لا بدّ أن تمرّ في ذهني أفشلت أي نيّة للكتابة عن العرض، وهي السؤال عن إمكانية أن يكون عرض كهذا مشروعاً ناجحاً للصالات السينمائية في بلادنا، وأن يساوي جمهورنا بينها وبين مباراة الدور الأول في المونديال، مثلاً.
في كل الأحوال، من الجيّد أن العرض المباشر من روسيا قد صادف الرابعة والنصف عصراً في فرنساً، لأن العرض نفسه في أمريكا أجبر مشاهديه على المكوث ليلاً في الصالات، خاصة أن العرض الأوبِّرالي امتدّ لثلاثة فصول تخلّلتها استراحتان، 25 دقيقة لكل منهما، لم تكن المقابلات المباشرة والإعلانات عن برنامج الموسم لمؤسسة الباليه والفرقة لتسد الخواء الذي تركه إسدال الستار عند نهاية كل فصل.
الموسيقى من تأليف الأذربيجاني أريف ميليكوف المعروف بموسيقاه السيمفونية المبنيّة على الفولكلور الأذربيجاني، إلا أن موسيقاه لهذا العرض كانت كلاسيكية تماماً. مصمّم الرقصات هو الروسي يوري غريغوروفيتش المعروف كأفضل مصمّم رقصات باليه معاصر على مستوى العالم. أما مؤسسة الرقص، وهنا نحكي عن مؤسسة وليس فرقة راقصة، فهي مارينسكي كيروف باليه، التي بدأت تعرض على مسرح بيترسبرغ بولشويْ منذ 1783 ثم في مسرحها الخاص منذ 1885 وحتى اليوم. وهي من أعرق مؤسسات الباليه في العالم.
والأوركسترا المرافقة كانت تلك الخاصة بالمؤسسة. وهذا عرض الباليه الكلاسيكي الذي أُنتج لأول مرّة عام 1961 من تأليف الشاعر والمسرحي الشيوعي التركي ناظم حكمت، الذي تملّصت مقدّمة العروض الروسية التي تلخّص وتعلّق وتستضيف مشاركين بالعرض بين فصل وآخر، تملّصت من التلفّظ بشيوعية حكمت فأشارت إلى أن الشاعر يُعرف بأنه «مثالي وثوري وأممي»، هي تركيبة لا يخرج عنها غير شيوعي بالمناسبة.
سأواصل تماسكي في الحديث عن «أسطورة الحب» وحسب، من دون أي إشارات لمجتمعاتنا وصالاتها، وهذه قصّة الأوبِّرا: في الفصل الأول تنتحب الملكة ميخمين بانو لأن اختها الأميرة الشابة، شيرين، تحتضر.
يظهر رجل غريب يعرض إمكانية علاجها على أن تضحّي الملكة بجمالها، تقبل هي وتسترد اختها عافيتها. ثم في حديقة القصر تمرّ الأختان برسّام القصر فرخاد، يتبادلون النظرات وتقع الاثنتان في حبّه، أما الرسّام فيقع في حبّ شيرين التي تعود لاحقاً إلى الحديقة لتلتقيه.
في الفصل الثاني تهيم الملكة حبّا بالرسّام، تيأس لإدراكها بأنها خسرت جمالها الذي ضحّت به لأجل اختها، وأنها بالتالي لن تكسب حبّ الرسّام. الأميرة الشابة تعيش فرحها وحبّها مع الرسّام الذي يجد طريقه إلى غرفتها ويهربان معاً من القصر. غيرة الملكة تدفعها لتأمر باعتقال الاثنين، يتم ذلك وتشترط الملكة على الرسّام كي يكسب الأميرة أن يحفر ممراً يخترق الجبل الذي يسدّ عنهم مصادر المياه، يقبل الرسّام الشرط مندفعاً بحبّه للأميرة.
في الفصل الثالث، تزداد الحاجة للمياه يوماً إثر آخر، والناس تبدأ بالعطش، وللحصول على المياه لا بدّ أن يُخترق الجبل. الرسّام في الجبل يحلم بشيرين وحبّها وبأنه لأجلها سيجد منفذاً للماء إلى المدينة، الملكة تحلم باستعادة جمالها لتمتلك به حبّ الرسّام، الأميرة تقطع أحلام اليقظة لأختها الملكة طالبة منها أن تعفو الرسّام عن المهمّة وتسمح له بالعودة.
الناس العطشى يزدادون تمسّكا بأمل أن يجد الرسّام طريقاً لمصادر المياه. الأخير يعود خائباً، العاشقان يرتميان بحضنيْ بعضيْهما، كل من الملكة والأميرة تأثّرتا بمدى التضحية التي يمكن أن يقدّمها الرسّام لأجل الناس وحبيبته، وإن لم يجد طريقاً إلى الماء.
هذه الحبكة، أما الموسيقى السيمفونية فعالم آخر، وأما اللوحات الراقصة وتلاعب الأجساد مع الإضاءة فعوالم أخرى. لست هنا لأحكي كم هو آسر هذا العرض، بل كم هي مريعة فكرة أن تُحرم مجتمعاتنا، وتحرم نفسها، من عروض كهذه في صالات سينمائية، عروض تكفي كل من الحبكة والرقص والموسيقى بحد ذاتها لعروض منفصلة في الصالات.
كان العرض قبل أيام في الصالات الفرنسية، والعالمية كونه نقل مباشرا، وسيكمل الموسم عروضه بـ «كسّارة البندق» رائعة تشايكوفسكي في كانون الاول/ديسمبر، وفي يناير من العام القادم سيتم عرض «بحيرة البجع»، رائعة أخرى لتشايكوفسكي، وفي مارس مسرحية شيكسبير «روميو وجولييت» في عرض باليه كذلك.
لعلّها من أجمل الاقتراحات التي حُملت إلى السينما، ساعات طويلة من الموسيقى والرقصات والألوان والأجساد، تَطهّرٌ تحتاجه النفس لإضفاء عوالم وجماليّات مجرّدة في العلاقة مع الصالة السينمائية وشاشتها البيضاء وكراسيها المخمليّة الحمراء.

القدس العربي