زيدون الزعبي
بداية وقبل أي شيء، لا أخفي، بل أعتز بقرابتي بالسيد فاروق الشرع، نائب الرئيس السوري السابق، ووزير خارجية البلاد لعقود. هو خال والدتي، مما سيجعل كلامي منحازا. لا أدعي قدرتي على تفادي هذا الانحياز، لكني حاولت ما استطعت أن أنقل في السطور الآتية ما جرى بيني وبينه في حوارات أربعة بين شهري مارس/آذار، ويوليو/تموز من عام 2011، فيما أراده هو من “مؤتمر الحوار الوطني” في منتجع صحارى قرب دمشق، لكن ليعذرني هو والقراء إن أنا سهوت أو انحزت رغما عني.
ترددت كثيرا أن أكتب عن شخصية مثلت لكثير من السوريين ولنا ضمن العائلة، مثالا لكيف تستطيع أن تكون سياسيا في منظومة سياسية لا يسهل النقاء فيها. فأنا أولا أتحدث عن الخال، الذي كنا نبتسم ونرفع رؤوسنا عندما كنا نذكر قرابتنا به من ناحية، ولكني أنا نفسي الذي يشتغل بالشأن العام، فكيف أفصل الخاص عن العام؟ ولو لم أكن قريبا له هل كنت سأكتب؟
والسؤال الأهم: لماذا أكتب؟ ولماذا الآن؟ لماذا لم أكتب عندما هاجمه هذا الطرف أو ذاك، في كل ادعاء لانشقاقه عن السلطة؟ لماذا لم أكتب حينها؟ حقيقة حاولت الكتابة مرة واحدة عام 2016 لكني لم أجرؤ وقتها، إذ كنت، وما زلت، أخشى مسؤولية مخاطبة الرأي العام. لكن، كنت أشعر في كل مرة أروي خلالها ما تم بيني وبينه- في لقاءاتي الأربعة معه- أن هناك ما يستحق أن يعرفه الشعب السوري عن شخصية قادت أول محاولة حوار حقيقية. الحوار الذي لم يحدث بعد لا كما أراده الشرع، ولا كما تستحقه البلاد حتى الآن. وأنا أعلم اليوم أن البلاد الممزقة والمقسمة بأشد الحاجة لحوار وطني لا يقصي أحدا، أستعيد هذه اللقاءات الأربعة، وها أنا أقول لكل مهتم ماذا كان موقف الشرع الحقيقي ولماذا فعل ما فعل، متمنيا أن لا أتسبب لهذا الرجل ولأسرته التي أحب وأجلّ أي حرج فيما أقوله هنا، ومحاولا التذكير بفرصة الحوار الضائعة.
الشرع للمتظاهرين: لا تظنوا أن الدولة كلها موافقة على الحوار، أكاد أكون وحدي، لا تضيعوا الفرصة
حدث أول لقاءين بيننا، بعد مجموعة من الاتصالات الهاتفية. كان أولهما يوم الهجوم على المحتجين، المعتصمين في الجامع العمري يوم 23 مارس/آذار 2011، في مكتبه مقابل حديقة السبكي، في أبريل/نيسان 2011. طلبت أنا هذه اللقاءات. أردت معرفة وجهة نظره، ووجهة نظر السلطة في سير الحراك. قال لي: “دعنا لا نخدع أنفسنا، كلنا معجب بالنموذج الديمقراطي، وهذا الشعب خلاق وإبداعي، ويستحق حريته وهو يدفع ثمنها… ما أريده أنا هو أن أطلق حوارا استراتيجيا يسعى إلى تغيير وجه الدولة”. أعاد كلامه مرة أخرى: “أقول تغيير وجه الدولة وبنيتها”. أراد فهم ما يجري في الشارع بدقة. لم يغضب عندما علم أنني متظاهر، بل كان يستوضح مني عن الهتافات ومصادرها. كانت على وجهه علامات التفاؤل… قال: “كما نجحت في الملف الخارجي، أنا متأكد من نجاحي في الملف الداخلي الآن”.
جرى اللقاء الثالث قبيل سفري إلى فرنسا نهاية يونيو/حزيران. كنت قد قررت الذهاب إلى فرنسا للقاء شخصيات المعارضة فيها، محاولا فهم ما يمكن فعله. توجهت إلى منزله في “ضاحية الأسد” قرب دمشق، وصلت إلى بيته بعد أن أوقفني عدد من الحواجز. قلت له: “إنني ذاهب إلى باريس، فهل لديك ما تريد إيصاله للمعارضة؟”. أجابني: “يجب أن يأتوا إلى مؤتمر الحوار (في “منتجع صحارى” قرب العاصمة السورية). سيكون عدم مجيئهم للحوار كارثة على مستقبل سوريا. ما نريده هو حوار حقيقي يؤدي إلى دولة تعددية ديمقراطية وليس شراء وقت. لا تظنوا أن الدولة كلها موافقة على هذا المؤتمر، أكاد أكون وحدي، لا تضيعوا الفرصة”.
وعدته بإيصال كلامه لهم، وغادرت منزله بعد أن سألني عن الحراك، وعمن يقف ضد الحوار، وعمن يمكن محاورته من قيادات الشارع.
أثناء وجودي في فرنسا، اعتقلت السلطات عددا من المعارضين على رأسهم معن العودات، والذي كان مدعوا بدوره إلى الحوار، وداهمت بيوت عدد منهم. اتصلت بابن خالتي، ليزوره ويقول له: “كيف تعتقلون من تدعون للحوار؟ لا أظن أن أحدا سيحضر إن استمر الأمر على ما هو”. عادت إجابته: “إياكم أن تقاطعوا، من يعتقل لا يريد حلا سياسيا، وحضوركم إفشال لمن لا يريد الحل”.
اتخذت المعارضة قرارها بالمقاطعة، تلقيت بعدها اتصالين هاتفيين من شخصيتين معارضتين بقرار المقاطعة.
كان الشرع يعرف منظومة الحكم بشكل دقيق، ويعرف مجتمعا دوليا حاوره وفاوضه لأكثر من ثلاثة عقود، فكيف ينشق؟!
وصلت إلى دمشق وذهبت فورا إلى منزله. أبلغته أن لا أحد سيحضر، وأن وعود سحب الجيش من المدن لم تلب، وأنك لا يمكن أن تدعو شخصا وتدمر منزله أو تعتقل فردا من عائلته. بدا على وجهه إحباط رهيب، وقال لي: “كنت أتوقع أن تفشل في مهمتك لا أن تقاطع أنت نفسك”. قلت له: “خال: أنا لم أكن في مهمة، أنا تبرعت أن أوصل رسالة وقد أوصلتها، وها قد مضى على اعتقال معن (العودات) قرابة الأسبوع دون الإفراج عنه، فكيف نشارك؟”. قال لي: “أنتم لا تعرفون إلى أين تجرون البلاد، وأنتم تفشلون كل من يريد حلا سياسيا في البلد أنتم تواجهون الحائط”. أشار بحركة من يديه أن اللقاء انتهى، ولم أره منذ ذاك الوقت. لكنني علمت لاحقا، أن السلطة وجهت له انتقادات عنيفة بسبب كلمته التي ألقاها في اللقاء التشاوري، والتي قال فيها: “التظاهر غير المرخص يؤدي إلى عنف غير مبرر”، لأنه وضع العنف كله في صف النظام.
مضى أكثر من عقد على ذلك اللقاء ولم أتصل به من وقتها. خرجت عشرات الشائعات التي تتحدث عن انشقاق لم يحدث قط. كان الشرع يعرف منظومة الحكم بشكل دقيق، ويعرف مجتمعا دوليا حاوره وفاوضه لأكثر من ثلاثة عقود، فكيف ينشق؟!
لم أبتغ من هذا المقال تبييض صفحة الشرع، فهو ليس بحاجة لشهادتي، لكني أردت أن أزيل الغبار عن شخص أثر كثيرا في حاضر سوريا السياسي، وأردت أن أذكر بفرصة ضائعة عندما كان الحل والحوار ممكنا، وكيف ضيعتها المعارضة وتركت من أراد التغيير الحقيقي من طرف السلطة وحيدا.
في عام 2014 التقيت واحدا من الشخصيات المعارضة التي قاطعت “حوار صحارى”، وقلت له: “ألست نادما على عدم التجاوب مع الشرع؟”. هز رأسه وقال: “نعم. نحن لم نرتكب خطأ، بل خطيئة”. ربما لم يفت الأوان على إطلاق حوار وطني شامل كالذي أراده الشرع. لكن فرصة نجاة هذه البلاد ضيقة… ضيقة.
المصدر: المجلة