الكرد جيران المحاكم والنزلاء الأكثر تردداً على سجونها. يمكن تحليل المحاكمات الصادرة في حق 108 سياسيين وحقوقيين من قيادات وأعضاء حزب الشعوب الديمقراطي (حزب الديمقراطية والمساواة حالياً) في الجانب الاتهامي الحقوقي، وصراع الأجنحة داخل الدولة، وهو صراع ينعكس بشدة على القضاء وسير العدالة، وهذا الارتباط بين القضاء والتحالفات السياسية جزء من طبيعة الدولة منذ تأسيس الجمهورية عام 1923.
منذ الفوز الصعب الذي حققه الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في الانتخابات الرئاسية في صيف 2023، استفحلت مجدداً ظاهرة الأجهزة المتصارعة داخل الدولة، وهو أمر ليس مخفياً، وحديث الإعلام في البلاد، منها الحملات الأمنية بقيادة وزير الداخلية علي يرلي كايا ضد الشبكات التي صمت عنها الوزير السابق سليمان صويلو. تزامن صدور هذه الأحكام أيضاً مع إطلاق محكمة أخرى سراع ضباط موقوفين في قضية “أرغنكون”. المشهد داخل الدولة يمهد لصراع أوسع داخلي، يحاول أردوغان المحاصر بهذه التوترات، وقد خلقها بنفسه سابقاً، الإبقاء على توازن في دائرة تحالفه السياسي والأمني مع شريكه في الحكم حزب الحركة القومية. وبالنسبة للأخير وزعيمه دولت بهجلي، وقاعدته الانتخابية، فإن الحكم على صلاح الدين دميرتاش بأكثر من 29 عاماً هو درة تاج الأجندة العاجلة للتيار القومي المتطرف، وقد حقق لهم ذلك. لقد استولى أردوغان على كامل القرار في إدارة الدولة، وحين تحقق له ذلك بالكامل، بات في أقل فترة سيطرة على ما يريد، من الاقتصاد إلى الأمن وكل ملفات الدولة، بسبب اضطراراه إلى تقديم ما يرضي حلفاءه.
إن هذه المعادلة عبء إضافي على كاهل القضية الكردية. فهي لم تعد فقط قضية سياسية اجتماعية، إنما أيضاً أساس المساومات التركية في عملية الترتيب الداخلي. وهي قضية كبيرة، أصبحت أيضاً رأسمال الحكومة في رشوة أصدقائها. أصبحت الضربات المتتالية على القضية الكردية، من احتلال عفرين وتهجير أهلها والشريط الشمالي من سوريا، والحملات في إقليم كردستان العراق، وملاحقة رموز الحركة الديمقراطية الكردية في شمال كردستان، الرأسمال السياسي الأهم لحزب العدالة والتنمية في استمراره بالحكم أكبر فترة ممكنة. سيضمن له الحكم السياسي على دعاة الحل الديمقراطي والتوافق المشترك الكردي التركي، سنوات عديدة للبقاء في الحكم.
المحنة الجديدة أمام الكرد هي ذاتها محنة الديمقراطية، فإلحاق الأذى وإنزال العقاب بالقضية الكردية ينقذ الحاكم من الإفلاس والسقوط وهي معضلة أمام الدولة ذاتها مستقبلاً، لأنها تعتاش على خطاب وسلوك الكراهية ضد مجتمع داخل الدولة. يساهم في ذلك أن المعارضة المتمثلة في حزب الشعب الجمهوري منقسمة على نفسها، ويحاول أردوغان استمالة رئيس الحزب الجديد أوزيل ودعمه ليغلق الطريق أمام أكرم إمام أوغلو الصعود إلى زعامة تركيا، وأيضاً من أجل منع عملية التحول الأيديولوجي في حزب الشعب الجمهوري، فالأفضل لأردوغان أن يعود هذا الحزب إلى نسخة دينيز بايكال في العقد الأول من القرن الحالي، أي حزب يساري قومي متطرف، وجزء من الدولة العميقة، لا يمكن تمييز خطابه من خطاب حزب الحركة القومية.
رغم ذلك، طيلة تاريخ الجمهورية اختبر الكرد تحركات القضاء منذ دعاوى محكمة الاستقلال عقب ثورة عام 1925. يومها تحركت المجموعة الحاكمة في الظل، عصمت إينونو وفوزي جقمق، وأطاحت برئيس الحكومة فتحي أوكيار الذي رفض تلويث أيديه بدماء الكرد.
كان أوكيار يدرك ما يجري من حوله. استغل مصطفى كمال أحداث الثورة للقضاء على الحزب الجديد المعارض، الحزب الجمهوري التقدمي. وأوكيار في ذلك الوقت رئيس للحكومة. فطلب منه مصطفى كمال إصدار قانون أسماه “قانون تقرير السكون”، وأراد عدم حصر القانون بمنطقة التمرد الكردية بل أن يشمل كامل البلاد حتى إسطنبول، لأن مصطفى كمال يرى – وفق رضا نور، الوزير والسياسي المطلع على تحركات مصطفى كمال– أن صحافة إسطنبول هي سبب هذا العصيان، وان هذه الصحافة تدعم الشيخ سعيد.
استقال فتحي أوكيار في 3 مارس/ آذار 1925، أي بعد أقل من شهر من اندلاع الثورة في كردستان، وقبل أن يتم اتخاذ أي إجراء مضاد. لا يذكر رضا نور شيئاً عن وقائع اعتراض أوكيار على أسلوب كمال في مواجهة الثورة. فقد صدر قانون السكون بالفعل بعد يوم واحد من استقالة أوكيار، بتوقيع عصمت إينونو الذي عاد إلى الأضواء رئيساً للحكومة. كتب رضا نور:
طلب مصطفى كمال من فتحي أن يستقيل، قال مصطفى كمال لزوجة فتحي: أعطيتكما سفارة باريس، فاذهبا. وفي ثورة الشيخ سعيد أرسل مصطفى كمال جيشاً إلى كردستان، لم يترك هذا الجيش مكاناً هناك إلا وأطلق عليه الرصاص. أحرق القرى وقتل الناس. وأعقب هذا الجيش محكمة الاستقلال، شنقت الشيخ سعيد وكثيراً من قادته، وأبادت كل المنتسبين إلى الحزب الجديد (الجمهوري التقدمي) وأطلقوا على هذه الحركة اسم الثورة الكردية، وتم إلغاء الحزب الجديد رسمياً وصودرت كل وثائقه.
منذ ذلك الحين وسلك القضاء في الجمهورية يفتقد ثقة حتى مؤسسي الجمهورية، فإلى جانب فتحي أوكيار الذي رفض تلويث يديه بدماء الكرد، ينقل رضا نور عن مصطفى نجاتي بك، وهو وزير في الحكومات المتعاقبة منذ الاستقلال، منها وزارة التوطين ووزارة المعارف، أن نجاتي كان يشعر بالرضا لرفضه قبول منصب المدعي العام في محكمة الاستقلال التي أصدرت مئات الأحكام المجحفة بإعدام الكرد عام 1925، المشاركين في الثورة وحتى العديد من أعوان الدولة خلال الثورة. يقول نجاتي بك:
“كنت سأصبح مجرماً تغرق يدي في الدماء. صحيح أننا وزراء لكنك تعلم أننا عبيد عن الغازي”. (مذكرات رضا نور – ص 203)
أنشئت محكمة الاستقلال عقب إعلان حكومة المجلس الوطني الكبير في 28 أبريل/ نيسان 1920. فسارع مصطفى كمال باقتراح قانون الخيانة الوطنية، فصدر في 29 أبريل 1920، واستصدر قانون محاكم الاستقلال. وأول تفعيل لهذه المحاكم كان ضد ثورة كردستان بقيادة الشيخ سعيد بيران في مايو/ أيار 1925، ثم في تمرد إزمير عام 1926. فأصدرت هذه المحكمة مئات أحكام الإعدام والسجن المؤبد والتجريد من الأملاك والنفي والتهجير.
كردياً، موقع المحاكم دائماً قبل الخط الأخير. حين ينجو المرء من التصفية الجسدية في سلسلة أجهزة الملاحقة، فإنه يجد نفسه وقد دخل الغرفة الأخيرة، غرفة القضاء التي دخلها صلاح الدين دميرتاش ورفاقه تحت دعوى قضائية ملتوية مضمونها دور الحراك الشعبي في شمال كردستان بهزيمة تنظيم داعش في معركة كوباني. وبذلك، فإن “قضية كوباني” وهو اسم هذه القضية في الوثائق الرسمية، ليست الدعوى الجماعية الأولى بهذا الحجم. فبعد محاكمات 1925، شهدت كردستان محاكمات جماعية في 1930 في ثورة آغري، وأيضاً في 1937 في ثورة ديرسم، فضلاً عن واحدة من أشهر المحاكمات الجماعية وهي “قضية الـ 49″. فقد كتب السياسي والمثقف الكردي، موسى عنتر مقالات أدبية في صحيفة ” İleri Yurt” الصادرة في آمد، استخدم فيها بعض العبارات الكردية في الخمسينيات من القرن الماضي حين كان الحكم في أيدي الحزب الديمقراطي، الخصم المفترض لحزب الشعب الجمهوري.
في واحدة من هذه المقالات المكتوبة باللغة التركية أساساً، وتحتوي على مقطع باللغة الكردية، كتب موسى عنتر قصة محاولة فتاة بيع قصعة من القمح لباعة متجولين في بلدة سويرك، لكن لدى معاينة بضاعتها تبين للباعة أن حشرة القمل قد فتكت بالقمح، ورفضوا الشراء، فعادت الفتاة حزينة وهي تنشد بالكردية، ومن أبياتها:
Qimil hati lo apo, bi refaye rebeno
Xwar genimi lo apo, hiştî gîya rebeno
Pez herikî lo apo, ser şivana rebeno
Çar golikên me man apo, li ser gûhana rebeno
يعقب موسى عنتر على الأغنية بطمأنة الفتاة، فيكتب مخاطباً إياها إن إخوتها قادمون لتخليصها من هذه المحنة.
القصيدة حكاية شعبية من ثقافة سويرك، عن إفساد القمل وحشرة السونة للموسم، وكلماتها مليئة بالرموز، فاستخدمت أجهزة الصحافة خبراءها باللغة الكردية لتفكيك المعاني، فهموا بعض الأمور لكن لم يجرؤوا على تحديدها، منها أن كلمة “qimil” بالكردية هي نفسها القمل بالعربية، لكن هناك كلمة أخرى أكثر انتشاراً وهي كردية، لم يستخدمها موسى عنتر، لأنه أراد المغامرة في جعل القارئ الكردي يقوم بتأويلها، فوضع عنوان قصيدته “kimil” مغيراً منها الحرف الأول الذي يلفظ قافاً إلى كاف، وهذا يقرب الاسم من “كمال – الكمالية”. وفي نهاية الأغنية هناك أربعة عجول ليس لهم بعد فساد الزراعة بسبب القمل سوى الاعتماد على ضرع أمهم، في رمزية لأجزاء كردستان.
لقد تلاعب موسى عنتر بسدنة الدولة وأجهزتها الرقابية بالتأويل الأدبي، دون التصريح، فصدرت مذكرة قبض عليه بدعوى تهديد سلام ووحدة الجمهورية. تضامنت معه مجموعة من المثقفين الكرد، فتم اعتقال 50 شخصاً في المجموع. توفي أحد المعتقلين في السجن بعد تعرضه لنزيف داخلي، فأصبح اسم الدعوى القضائية “قضية الـ 49”. والواقع تم ترتيب الاعتقالات مسبقاً وكانت قصيدة موسى عنتر هي الذريعة التي يحتاجونها للتحرك. فقد سيطر الرعب على الجمهورية بعد انقلاب 1958 في العراق والإطاحة بالنظام الملكي وعودة القضية الكردية إلى الواجهة في وفاق مع الدولة العراقية. كانت حكومة الحزب الديمقراطي الإسلامية في تركيا أقرب الحكومات إلى الغرب وحلف شمال الأطلسي.
يورد الكاتب جلال تمل اقتباساً من وثيقة استخباراتية تظهر وهم القضاء العادل. فقد اقترح الرئيس جلال بايار شنق ألف كردي في ساحة الاستقلال باسطنبول رداً على مجزرة ارتكبها الشيوعيون الكرد ضد التركمان في كركوك. هناك وثيقة تكشف عن أن وزير الخارجية فطين زورلو حذر من أن سمعة تركيا متضررة في الخارج بالفعل بسبب مذابح الأرمن والهجوم على الروم في اسطنبول عام 1955، واقترح خطة أكثر ليونة. فيقترح أحدهم: “دعونا نعتقلهم، ونشنقهم، ونحافظ على سرية الاعتقالات في اللحظة الأولى، فإذا تم الكشف عنها، فلنعلنها حركة شيوعية، وليست حركة كردية”. “دعونا نظهر أن روسيا تريد إقامة دولة شيوعية في الشرق والجنوب الشرقي ونطلب مساعدات اقتصادية وعسكرية من الولايات المتحدة”. بعد هذه التقارير الاستخباراتية، قررت الحكومة، في اجتماع لكبار المسؤولين التنفيذيين، إجراء اعتقالات “في مجموعات مكونة من خمسين شخصًا”، وبالنسبة لأول 50 شخصًا يُزعم أنهم أعضاء في “حزب الاستقلال الكردي”، تم إعداد مذكرات اعتقال فارغة وسلمت إلى ضباط العملية في خريف 1959. لم يكن حزب الاستقلال الكردي موجوداً، هو اسم مختلق من جانب القضاء والاستخبارات. مع ذلك، تفادت الصحافة إطلاق هذا الاسم على القضية لتفادي اسم “كردستان”، فأطلقوا على المجموعة الأولى اسم قضية “الـ 49” وفيها موسى عنتر وشرف الدين آلجي وكمال بورقاي. استمرت المحاكمات في القضية حتى العام 1965 وسقطت بالتقادم، ولم تعثر جهة الادعاء على أي أدلة ضد المتهمين، أطلق سراح الجميع. فالدولة لم تتحمل مناقشة مسألة الكرد وكردستان في محاكمة علنية، وجاءت التوجيهات بإغلاق القضية بأسرع ما يمكن. لقد كان القضاء هو المكان الخطأ الذي يعرض فيه هؤلاء. لاحقاً بعد مرور نحو 30 عاماً يطلق أحد عملاء الاستخبارات العسكرية النار على موسى عنتر ويرديه قتيلاً في آمد.
إنها محكمة واحدة. من محكمة الاستقلال إلى “قضية الـ 49” إلى محاكمات كوباني. المشترك في هذه المحاكمات أنها جماعية، وفي كل مرة تتم المبالغة في تصوير التهديد الكردي للاستفادة من الأزمة داخلياً. لكن رغم ذلك، فإن “قضية كوباني” حققت فائضاً في الأوراق للحكومة تكفيها للمساومة وترتيب أمورها سنوات قادمة، إلى أن يحين موعد التنفس الكردي.
متى يكون ذلك؟
يروي زعيم حزب العمال الكردستاني عبدالله أوجلان موقفاً بقي عالقاً في ذاكرته، مع موسى عنتر في انقلاب 12 آذار 1971:
عندما شَكَّلنا مجموعةً صغيرةً من المؤيدين، أثناء حصولِ انقلابِ 12 آذار العسكريّ، قال لنا موسى عنتر: “لقد انشغلوا ببعضِهم بعضاً، فلننتبِهْ نحن لعملِنا”.
حسين جمو