عبد الله الرشيد
حاولت بعض الدراسات الاستشراقية التشكيك في مكانة القدس والمسجد الأقصى عند المسلمين من خلال البحث في مرويات التاريخ الإسلامي عما يعزز فكرة مفادها أن مكانة القدس الدينية في الإسلام لم تكن ذات أصل ديني متفق عليه، وأن قداسة المدينة صُنعت بفعل عوامل سياسية واجتماعية، من أهمها حرص حكام بني أمية على جذب الناس إلى بلاد الشام -عاصمة حكمهم- في مواجهة ثورة عبد الله بن الزبير في مكة المكرمة.
من الأمثلة على ذلك، ما طرحه الأستاذ في الجامعة العبرية، إسحاق حسون، أن حرمة القدس لم يكن عليها إجماع بين المسلمين إلا منذ القرن الثاني الهجري، وأن الاهتمام بالقدس وفضائلها نشأ بسبب سعي حكام بني أمية الى تحقيق مكاسب سياسية في مواجهة خصومهم، ولهذا أمر عبد الملك بن مروان ببناء قبة الصخرة من أجل تحويل الحج من مكة إلى القدس.
وقد تسربت مثل هذه الأفكار إلى بعض المثقفين العرب والمسلمين، يدعمه اتجاه عريض من التراكم الثقافي والتاريخي في تشويه صورة حكام بني أمية، والادعاء أنهم “اختطفوا الإسلام الصحيح، وحاولوا صرف الناس عن مكة، ودفعوهم للطواف بقبة الصخرة بدلا عن الكعبة”!
فما حقيقة موقف الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان من بيت المقدس؟ ومن أين جاءت الفكرة التي تقول بأنه منع الحج الى مكة، وبنى قبة الصخرة ليصرف الناس عن الكعبة؟
رواية ضعيفة متناقضة
حين ندقق في الروايات التاريخية، نجد أن الرواية التي ذكرت أن عبد الملك بن مروان بنى قبة الصخرة ليصرف الناس عن الحج إلى مكة، هي رواية يتيمة، ضعيفة ليس لها سند صالح، انفرد بها اليعقوبي في تاريخه، وهو مؤرخ مشهور بمعاداته للدولة الأموية، يقول: “ومنع عبد الملك أهل الشام من الحج؛ وذلك أن عبد الله بن الزبير كان يأخذهم إذا حجوا بالبيعة، فلما رأى عبد الملك ذلك منعهم من الخروج إلى مكة، فضج الناس وقالوا: تمنعنا من حج بيت الله الحرام وهو فرض علينا؟! فقال لهم: هذا ابن شهاب الزهري يحدثكم، أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال: «لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجدي، ومسجد بيت المقدس». ـ ثم قال عبد الملك: ـ وهو ـ أي: بيت المقدس ـ يقوم لكم مقام المسجد الحرام، وهذه الصخرة التي يروى أن رسول الله وضع قدمه عليها لما صعد إلى السماء تقوم لكم مقام الكعبة». فبنى على الصخرة قبة، وعلق عليها ستور الديباج، وأقام لها سدنة، وأخذ الناس بأن يطوفوا حولها كما يطوفون حول الكعبة، وأقام بذلك أيام بني أمية”.
هذه الرواية التي يوردها اليعقوبي بقدر ما تسعى الى تشويه صورة خلفاء بني أمية، فإنها في المقابل تصور العالم الإسلامي وكأنه ضعيف مغلوب على أمره يمكن التلاعب به وتسييره بهذا الشكل من السذاجة والسطحية، بينما في واقع الأمر أن هناك طوائف وفرقا من المسلمين قد اختلفوا مع حكم بني أمية، ودخلوا معهم في حروب من أجل مسائل سياسية أصغر من ذلك بكثير، فكيف إذا بلغ الأمر أصلا من أصول الإسلام!
إن هذه الروايات وأمثالها مما لا يقبله عقل، ولا منطق، تنتمي الى سلسلة واسعة من الأخبار المتهافتة المكذوبة، المنحولة في حق خلفاء بني أمية وولاتهم، وكتب التاريخ والأدب العربي طافحة بذلك مع الأسف الشديد. وسوف يتبين لنا بطلان هذه الرواية من جوانب عدة، ومن كلام اليعقوبي نفسه.
قداسة المكان قبل البناء
فند الدكتور محمود إبراهيم – الأستاذ بالجامعة الأردنية- في كتاب نفيس له بعنوان “فضائل بيت المقدس في مخطوطات عربية وقديمة” هذه الرواية من جوانب تاريخية ومنطقية، ذلك “أن القول بأن الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان قد أراد أن يضفي على القدس طابع قداسة خاصة ببنائه قبة الصخرة، أو مسجد الصخرة، من أجل أن يتحول الناس في حجهم من مكة إلى القدس قول مرفوض في إطار العقيدة الإسلامية وفي إطار النصوص الصحيحة المنقولة. فالخليفة الأموي عندما عزم على بناء مسجد قبة الصخرة لم ينطلق من فراغ بالنسبة إلى مكان البناء وقداسته المعترف بها أصلا، فهو إنما أراد أن يقيم مسجدا وقبة فوق الصخرة التي يعتقد جميع المسلمين بأنه قد عرج بالرسول – عليه السلام – منها إلى السماء، واستشار رعيته في ذلك قبل أن يبدأ البناء. فالبناء الذي أقامه اكتسب قداسته من الموقع الذي بني عليه، وليس العكس. والرجل الذي اعتمد عليه عبد الملك اعتمادا أساسيا في بناء مسجد الصخرة، وهو رجاء بن حيوة، كان من علماء المسلمين، وكان صديقا لعمر بن عبد العزيز، ولم يكن هذا ليشارك أبدا في بناء يقصد به خديعة المسلمين وغشهم بأن يتحولوا إلى الحج إليه بدلا من مكة. ومن البديهيات كذلك أن عبد الملك ما كان ليفكر مجرد التفكير في إحلال صخرة القدس محل الكعبة؛ وذلك لأنه ما من خطر عليه يمكن أن يكون أشد من محاولته تحويل الحج عن مكة، وهو ركن من أركان الإسلام المفروضة والمبينة في القرآن الكريم، ولو أنه فعل ذلك لوصم بالكفر ولحل قتاله في نظر المسلمين”.
ألوية بني أمية في الحج
أما رواية منع عبد الملك الناس من الحج إلى مكة إبان ثورة ابن الزبير فهي رواية متهافتة منقوضة، حتى عند اليعقوبي نفسه، الذي يقول بعد صفحتين فقط من إيراده هذه الرواية إنه في سنة ٦٨هـ وقفت أربعة ألوية بعرفات: محمد بن الحنفية في أصحابه، وابن الزبير في أصحابه، ونجدة بن عامر الحروري، ولواء بني أمية. ثم ينقل عن المساور بن هند بن قيس قوله: «وتشعبوا شعبا، فكل قبيلة فيها أمير المؤمنين»، ومعروف أن حكم ابن الزبير في مكة امتد من عام ٦٦ إلى عام ٧٣ هـ، وهو عام مقتله. بل إن اليعقوبي يورد بعد ذلك أن عبد الملك نفسه قد حج سنة ٧٥هـ، مما يخالف روايته الأولى عن منع حكام الأمويين الناس من الحج أيام بني أمية. ويعدد لنا اليعقوبي نفسه بعد ذلك الذين أقاموا الحج للناس من رجال الأمويين خلال السنوات من ٧٢ حتى ٨٥ هـ، ومنهم عبد الملك نفسه، وابنه سليمان، وأبان بن عثمان بن عفان، والحجاج بن يوسف الثقفي.
أما ابن شهاب الزهري الذي تزعم الرواية أنه أفتى بجواز ذلك، فقد كان وقتها صغير السن غير معروف لدى عبد الملك، وأهل الشام، فقد ولد سنة 51ه، أو 58ه، على اختلاف في الروايات، ولم يقدم دمشق على عبد الملك إلا بعد انتهاء ثورة ابن الأشعث سنة 83ه، بينما يزعم اليعقوبي أن عبد الملك استشاره لبناء قبة الصخرة أثناء فتنة ابن الزبير عام 73هـ، وهذا مطعن صريح في رواية اليعقوبي، ودليل سقوطها.
إضافة إلى ذلك فإن قبة الصخرة بقيت مكانا مقدسا عند المسلمين بعد هزيمة ابن الزبير، واستمر خلفاء المسلمين وسلاطينهم منذ الدولة العباسية إلى يومنا هذا يولونها العناية والرعاية والاهتمام، فهي أقدس الأماكن عند المسلمين بعد الحرمين الشريفين في مكة والمدينة.
أبهى عمارة وأجمل بناء
يذكر ابن كثير في البداية والنهاية قصة عمارة قبة الصخرة، وكيف جمع عبد الملك أمهر الصناع من أطراف البلاد، وأرسل اليهم بالأموال الجزيلة: “ولما أراد عبد الملك عمارة بيت المقدس وجه إليه بالأموال والعمال، ووكل بالعمل رجاء بن حيوة ويزيد بن سلام مولاه، وجمع الصناع من أطراف البلاد وأرسلهم إلى بيت المقدس، وأرسل إليه بالأموال الجزيلة الكثيرة، وأمر رجاء بن حيوة ويزيد أن يفرغا الأموال إفراغا ولا يتوقفا فيه. فبثوا النفقات وأكثروا، فبنوا القبة فجاءت من أحسن البناء، وفرشاها بالرخام الملون، وعملا للقبة جلالين أحدهما من اليود الأحمر للشتاء، وآخر من أدم للصيف، وحفا القبة بأنواع الستور، وأقاما لها سدنة وخداما بأنواع الطيب والمسك والعنبر والماورد والزعفران، ويعملون منه غالية ويبخرون القبة والمسجد من الليل. وجعل فيها من قناديل الذهب والفضة وسلاسل الذهب والفضة شيئا كثيرا، وجعل فيها العود القماري المغلف بالمسك وفرشاها والمسجد بأنواع البسط الملونة. وكانوا إذا أطلقوا البخور شم من مسافة بعيدة، وكان إذا رجع الرجل من بيت المقدس إلى بلاده توجد منه رائحة المسك والطيب والبخور أياما، ويعرف أنه قد أقبل من بيت المقدس، وأنه دخل الصخرة، وكان فيه من السدنة والقوم القائمين بأمره خلق كثير، ولم يكن يومئذٍ على وجه الأرض بناء أحسن ولا أبهى من قبة صخرة بيت المقدس”.
المصدر: المجلة