في المشهد المعقد للصراعات الدائرة في سوريا، حيث يأتي كل يوم ومعه جملة من العناوين الجديدة، ثمة أحداث تتراجع إلى الخلف، لتطغى عليها أزمات أخرى أكثر صخباً وجلبة. وهذا هو الحال اليوم، حيث يطغى التركيز الإعلامي على الغارات الجوية الإسرائيلية ضد القوات المدعومة من إيران في المناطق التي تسيطر عليها الحكومة، بينما تجري أيضا سلسلة من التطورات التي قد تكون أقل بروزا، ولكنها تثير قلقا عميقاً وأعني بها محاولات الهروب من السجون من قبل مقاتلي “داعش” في الشمال. هذه الحوادث، التي وقعت في غضون أسبوع واحد، مرت دون أن يلاحظها أحد إلى حد كبير، ولكنها تسلط الضوء على تهديد كبير ومتزايد يصل إلى ما هو أبعد من حدود سوريا.
وفيما تلفت هذه المحاولات الانتباه إلى الخطر المستمر الذي يشكله تنظيم “داعش”، فإنها تكشف أيضا عن نقاط ضعف كبيرة في إطار الأمن الإقليمي. ولعلنا نعتبر من سابقة فرار قادة “داعش” من مرافق الاحتجاز العراقية عام 2013، فهي تحذير شديد من احتمال وقوع أحداث مماثلة لتسريع عودة المجموعة والمخاطر العالمية التي تشكلها.
ووقعت آخر محاولة هروب يوم 29 مارس/آذار، عندما قام معتقلون مرتبطون بتنظيم “داعش” بالتحريض على التمرد داخل سجن “الأحداث” شمال شرقي الرقة، والذي تديره قوات سوريا الديمقراطية (قسد). وأشعل السجناء النار في عدد من الزنازين أثناء محاولتهم الهرب، ما أدى إلى اندلاع مواجهات مع القوات الأمنية أدت إلى مقتل سجين وإصابة عشرين آخرين. وفيما أشارت التقارير إلى فرار ثمانية سجناء، أكد المسؤولون إعادة القبض على أربعة فقط.
وقد سبق ذلك حادثة أخرى يوم 24 مارس في سجن الإنشاء بالرقة، حيث تغلب السجناء على الحراس واستولوا على أسلحتهم. وأسفرت هذه الانتفاضة عن مقتل ستة أشخاص وإصابة خمسة عشر آخرين، واستطاع عدد قليل من السجناء الفرار. وأكد المسؤولون المحليون أنهم أعادوا توقيف جميع الهاربين، ولكن ذلك الادعاء لم يتأكد بشكل مستقل.
وفي 29 مارس، وقعت محاولة هروب أخرى، هذه المرة في عفرين، شمال غربي سوريا، حين فر اثنا عشر عنصراً من “داعش” من سجن في ناحية بلبل الخاضعة لسيطرة القوات المدعومة من تركيا. وعلى عكس الحوادث التي وقعت شمال شرقي سوريا، تمكن أعضاء “داعش” من الفرار دون أحداث عنف، حيث زُعم أنهم قاموا برشوة الحراس بمبالغ تتراوح بين 3000 دولار و10000 دولار للشخص الواحد. هذه الحادثة ليست معزولة، ففي العام الماضي، ذكرت تقارير أن 20 عنصراً من تنظيم “داعش” هربوا من سجن “راجو” شمالي حلب، المعروف أيضا باسم “السجن الأسود” سيئ السمعة، بالتواطؤ مع مسؤولي السجن.
لا تشير هذه الأحداث الأخيرة إلى زيادة في حدة المحاولات وعددها، بل تشير أيضاً إلى الانتقال إلى مرحلة يبذل فيها أعضاء “داعش” المعتقلون جهودا استراتيجية وتنظيمية لتحرير أنفسهم، في افتراق عن جهود الاختراق الكبيرة والعنيفة السابقة، مثل الهجوم الكبير على سجن الصناعة في الحسكة، شمال شرقي سوريا، أوائل عام 2022، الذي ذكرنا بحملة “تحطيم الجدران” التي شنها تنظيم “داعش” عام 2013، وأسفرت عن تحرير 500 سجين من أعضاء التنظيم من السجون العراقية، تولى الكثير منهم أدوارا قيادية داخل “داعش” لاحقاً.
لا تشير هذه الأحداث الأخيرة إلى زيادة في حدة المحاولات وعددها، بل تشير أيضاً إلى الانتقال لمرحلة يبذل فيها أعضاء “داعش” المعتقلون جهوداً استراتيجية وتنظيمية لتحرير أنفسهم
ولعل مرد هذا التحول من أعمال العنف من الخارج إلى أعمال شغب داخل السجون من أجل الهروب، أن تنظيم “داعش” يواجه صعوبات في تنسيق عمليات واسعة النطاق، بسبب الإجراءات المضادة المكثفة التي تتخذها “قوات سوريا الديمقراطية” والتحالفات الدولية، وهو ما دفع أعضاء “داعش” لكي يخططوا بأنفسهم للهروب من داخل مراكز الاحتجاز. وهذه طريقة أسهل لعدة أسباب، منها اكتظاظ مراكز الاحتجاز، وكثرة هذه المرافق، وعدم وجود تدابير أمنية كافية فيها. وفوق ذلك، فإن التعقيدات السياسية والقانونية لا تجعل المحاكمات والحلول القضائية أمرا ممكناً، فيجد أعضاء التنظيم أنفسهم دون أمل، مما يرجح استمرار مثل هذه العمليات التي ستغدو أخطر وأشد تعقيدا.
أما نجاح أعضاء “داعش” في الهروب من السجون التي تسيطر عليها القوات المدعومة من تركيا من خلال الرشاوى، فليس سوى دليل آخر على ما يمكن تحقيقه عبر الفساد الذي تفاقم بسبب العوامل الاقتصادية مثل ارتفاع التضخم وانخفاض الرواتب. وبسبب انخفاض عدد معتقلي “داعش” نسبياً في هذه المرافق بالمقارنة مع مناطق شرقي سوريا، فمن غير المرجح وقوع أعمال شغب واسعة النطاق، ولذلك يفضل السجناء أساليب الهروب الأكثر سرية. سوى أن تبني هذا النوع من خطط الهروب المُدارة ذاتيا يمكن أن تنجم عنه أخطار كبيرة. حيث إن العمليات واسعة النطاق، بسبب تعقيدها وحاجتها إلى تخطيط وتنسيق واسع النطاق، عرضة لأن تكتشفها القوات الأمنية، مما يزيد من فرص اعتراض هذه العمليات وإحباطها. في المقابل، فإن العمليات ذاتية التنظيم، الأصغر والأقل تنسيقا، تشكل نوعا مختلفا من الخطر.
إن الزيادة الأخيرة في محاولات الهروب من السجون عامل آخر يبين الحاجة الملحة لمعالجة مسألة آلاف السجناء من “داعش” المحتجزين في سجون مؤقتة سيئة التأمين. إن التصدي لهذه التحديات يتطلب أكثر من مجرد التدابير الأمنية، فلا بد من وضع استراتيجيات شاملة لإعادة تأهيل هؤلاء الأشخاص وإعادة إدماجهم لمنع عودة الجماعة إلى الظهور. ويزيد من أهمية ذلك أن تداعيات تجاهل هذه القضية ليست محلية فحسب، بل هي قنبلة موقوتة قد تكون لها عواقب كارثية محتملة، سيتردد صداها خارج حدود سوريا.
المصدر: المجلة